|
|
شوكت الربيعي: نصف قرن في خدمة التشكيل العراقي والعربي
|
|
|
ا. د. مصدق الحبيب
تكمن اصالة الفن في قدرته على تخطي ماهو واضح ومعروف الى ماهو مخفي ومحجوب وُملغز" .. جبران خليل جبران
حين ُيكرَم الفنانون ويُحتفى بهم، فانما يكرمون في اغلب الظن على اعمالهم الابداعية ونتاجات استوديوهاتهم الفنية، وموقع تلك الاعمال والنتاجات في مسيرة الفن وتأثيرها على الجمهور. اما تكريم الفنان شوكت الربيعي فيتعدى ذلك بكثير ويخطو بعيدا عن حدود التكريم التقليدي. ذلك ان الفنان شوكت الربيعي لم يقف عند حدود فنان الاستوديو الممارس الذي ينتج لوحاته ويقيم فيها معارضا تشكيلية هنا وهناك فحسب، انما تخطى هذا الدور الى العديد من المجالات ذات العلاقة بعملية الانتاج الفني، كالنقد التشكيلي والكتابة فيه ومتابعة تطور مسيرة الفنون واقتفاء آثار مبدعيها. ولنا العديد من الامثلة على ذلك خاصة في مقالاته الموضوعية ودراساته المنهجية عن زملائه الفنانين العراقيين والعرب التي رفد فيه المكتبة العربية طيلة اكثر من اربعة عقود جنبا الى جنب مع ممارسة الفن التشكيلي والتعايش مع مناخاته المحلية والاقليمية والدولية.
أما الجانب الاخر من تلك المجالات ذات الارتباط العضوي بالابداع الفني والتي خاضها الفنان شوكت بنجاح هي الصحافة الفنية كما تمثلت في جهوده المشكورة في الاعداد والادارة والاشراف على الزوايا التشكيلية في العديد من الصحف والمجلات، تلك التجربة التي توجت باضطلاعه بمهام رئاسة تحرير مجلة "الرواق" التشكيلية وصحيفة "الفنان اليوم" واشرافه على عدد من البرامج الاذاعية والتلفزيونية. المثال الشامخ الاخر الذي ميز الفنان شوكت الربيعي عن سواه من اغلب الفنانين العراقيين والعرب هو عمله الدؤوب واجتهاده في مجال البحث والتوثيق. فالفنان شوكت يقف متفردا من بين الفنانين العراقيين الرواد في امكاناته العالية وطاقته الكبيرة التي تمخضت عن نتاج غزير ورصين تمثل باكثر من ثلاثين كتابا ضمت عددا من امهات الكتب في مجال الادب التشكيلي العربي ككتاب مقدمة في تأريخ الفن العراقي المنشور عام 1970، وكتاب الفن التشكيلي المعاصر في العراق المنشور عام 1972، وكتاب الفن التشكيلي المعاصر في الخليج العربي المنشور عام 1981 ، وكتاب الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي المنشور عام 1986، وكتاب مقدمة في تأريخ الفنون التشكيلية العربية المعاصرة. وجميعها مصادر اصلية أولية وثمينة عززت الادب التشكيلي في المكتبة العربية وقدمت للاجيال خدمة جليلة لايمكن الاستغناء عنها. وفي نفس المجال وعلى صعيد آخر، انكبَّ الفنان شوكت ايضا على دراسة تجارب نخبة من زملائه الفنانين المتفوقين على انفراد وبتفان وانصاف وتجرد من روح الانانية والمنافسة قدم دراسات موثقة ونقدية في حيوات وتجارب زملاء اعلام كفائق حسن ويحيى جواد وقتيبة الشيخ نوري ونزار سليم ومحمد غني حكمت واخرين كثار.
وحرصا منه على توسيع دائرة المعرفة التشكيلية في المنطقة عموما خارج المناخ التشكيلي العراقي، لم يهمل الفنان شوكت متابعة ونقد تجارب وطنية تشكيلية اخرى لم يسلط عليها الضوء من قبل ، فكتب لنا في هذا المجال كتبا متخصصة عن التجارب التشكيلية في الكويت والسعودية والامارات وقطر وعمان والبحرين. أما على صعيد المعارض الفنية فاننا نقف على عدد كبير من المعارض الشخصية والمشتركة التي امتد ت على طول اكثر من نصف قرن من الزمن، منذ اواسط الخمسينيات حين كان الفنان شوكت طالبا في معهد الفنون الجميلة في بغداد، واستمر الى يومنا هذا دون كلل او ملل او اي رغبة في التقاعس والانزواء او الترفع عن المناخ التشكيلي الذي تغير كثيرا واستقدم وجوها وقيادات وطاقات جديدة شابة قد لايجد معها الفنان الكثير من العوامل المشتركة. لكنه كان قد برهن وبشكل متواصل على اصالة روحه الجنوبية الحميمة ودماثة خلقه وسمعته الطيبة التي اخذت تسبقه اينما حل ، فلانسمع عادة عنه غير المديح الاستثنائي من قبل كل من يعرفه ويلتقي به.
اضافة الى غزارة اعمال ونشاطات الفنان فانها غطت مساحات جغرافية مترامية الاطراف ووصلت الى شعوب وامم بعيدة . فقد سافرت معارضه وانتشرت نشاطاته من الشرق الاقصى في اليابان والصين واندونيسيا والفليبين والهند الى الغرب الامريكي، مرورا باوروبا الشرقية والغربية. كما رافقت لوحاته محاضرات وندوات عن الفن العراقي والفنانين. ولا يمكن اغفال العمل الدؤوب الذي اضطلع به الفنان كناشط فني على الصعيد المهني والنقابي سواء ضمن مهماته كرئيس لجمعية التشكيليين العراقيين ومؤسس مرشد لجماعات مهنية فنية ، أم كناشط على صعيد الجمعيات والرابطات واللجان الفنية والثقافية العربية والدولية.
عند تأمل اعمال الفنان شوكت الربيعي يكون بمقدورنا تشخيص اتجاهين متميزين على الصعيد التكنيكي لكنهما يشتركان في القاعدة الاساسية او ينبعان من نفس الجذور. هذه القاعدة الصلدة هي عراقيته الصميمة وارتباطه بالارض وانغماسه في مناخات الريف الجنوبي التي نشأ وترعرع في كنفها فامتلأت رئتاه بنسائم الاهوار وعبق العنبر وتمرغت يداه بطين دجلة الحِرّي. ومن هذه النشأة اصبحت الوجوه العراقية ومفردات المناخ الجنوبي المحلي حلما شفيفا يحل على مخيلته في اليقظة والمنام وهاجسا لاواعيا يمتثل امام عينيه كلما حاول ان يحاور الكانفس في انتاج لوحة جديدة. يتمثل الاتجاه التكنيكي الاول من هذين الاتجاهين بالواقعية الشعرية في تركيب اللوحة وصياغة المناخات العراقية وسرد حكاياتها الاثيرة، فيما يتمثل الجانب التكنيكي الثاني في اسلوبه المعاصر الذي يمكن وصفه بخليط من التجريد والسريالية والذي لم يفلت من مناغاة ومناجاة ومحاورة المناخات المحلية حتى ولو بارتباطات رمزية بسيطة. ويمكن القول ايضا بأن كلا الاتجاهين عملا على انفراد وانفصال من اجل توفير خاصية حاسمة في الاعمال التشكيلية وهي تمكنها من ان تكون سلسة وجذابة ومريحة للمتلقي وجعله يشعر بالارتياح والطمأنينة حين يقف ازاءها ويتأملها . واللوحة من هذا القبيل لا ترمي إلى اي تهديد بوجه المتلقي ولا تتسبب بنفوره حتى اذا كانت مواضيعها صارمة سوداوية كئيبة كمواضيع الاسى والالم العراقي واقدارها النازفة وحروبها وكوارثها. وهذه الصفة الفنية التي تكسب المتلقي وتنتزع انحيازه هي من قبيل السهل الممتنع الذي لا يتوفر الا بتمكن الفنان من ادواته الابداعية وممارسته الطويلة وثقته العالية، الامر الذي نراه واضحا في اعمال الفنان شوكت الربيعي التي تعلق بالذاكرة وتلتصق بالقلب والضمير.
|
|
|
|
|
|
|