نادية أبو زاهر
الديموقراطية والإسلام كلمتان من أكثر الكلمات تداولا وبحثا وجدلا بين الباحثين والكتّاب وحتى الساسة. وغالبا ما ينحصر الجدل بين من يرى أن الإسلام يتعارض مع الديموقراطية، وبين من يرى العكس، ويأخذ كل من الطرفين حججا وبراهين لإثبات صحة رؤيته. وزاد الاهتمام بموضوع (الإسلام والديموقراطية) بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وتزايدت الاتهامات الموجهة للإسلام بأنه يتعارض مع الديموقراطية. وفي الدول العربية والإسلامية ظهرت أحزاب تصف نفسها بأنها (إسلامية) أو تقوم على مبادئ إسلامية، وثار جدل حول مدى ديموقراطية الحزاب الإسلامية، بالنظر إلى وجود وجهة نظر تقول إن من شروط الديموقراطية فصل الدين عن الدولة.
وبالعودة قليلا في التاريخ نجد أن جدلا مماثلا شهدته أوروبا حول "المسيحية" و"الديموقراطية"، وتحديدا بعد ظهور مصطلح "المسيحية الديموقراطية".
ومع بروز الأحزاب "المسيحية الديموقراطية" بعد الحرب العالمية الثانية زاد الجدل حول الدين المسيحي والديموقراطية، لاسيما بعد وجود عدد من التهم الموجهة لتلك الأحزاب.
رغم الاهتمام الكبير من كتّاب أوروبيين وتحديدا من المستشرقين، بدراسة العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، إلا أننا لا نلحظ ذات الاهتمام من الكتّاب المسلمين حول العلاقة بين المسيحية والديموقراطية أو الاهتمام بالأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا. وإن كنا قد نجد بعض الكتابات العربية هنا وهناك اهتمت بالأحزاب المسيحية الديموقراطية إلا أنها نادرة جدا، وبالغالب كانت بعض الكتابات تخلط بين "الديموقراطية المسيحية" كمصطلح، وبين الأحزاب الديموقراطية المسيحية. ولقلة الكتابات حول هذا الموضوع، سنعمل على إلقاء بعض الضوء على الأحزاب الديموقراطية المسيحية ونشأتها، وإلى أين تعود أصولها، وكيف انعكست علاقة الدين مع السياسة بالنسبة لهذه الأحزاب وأيهما طغى على الآخر، السياسة على الدين أم الدين على السياسة وكيفية انعكاس ذلك من خلال برامج الأحزاب السياسية خلال مراحل تطورها.
يصعب الحديث عن الأحزاب الديموقراطية المسيحية دون التمييز بينها وبين "الديموقراطية المسيحية"، فالتمييز غالبا يتم من حيث نشأة كل منهما، فالديموقراطية المسيحية نشأت في القرن التاسع عشر، فيما أن نشأة الأحزاب الديموقراطية المسيحية برزت فقط بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هذا لا يعني عدم وجود ارتباط بينهما، لاسيما من الناحية التاريخية حيث يجمع غالبية الباحثين على أن "الديموقراطية المسيحية" وحركاتها برزت مع نهاية القرن التاسع عشر بسبب حالة البؤس التي كان يعانيها العمال في تلك الفترة وبسبب تصاعد الحركات الاشتراكية النقابية، فظهرت هذه الحركات تحت مسمى "العمل الكاثوليكي الشعبي" والتي تطورت لاحقا لتُعرف بـ"الديموقراطية المسيحية" التي تعود جذورها الفلسفية لتوما الإكويني وأفكاره، وهناك من يعتقد أن الصراع بين الكنيسة والدولة كان أحد العوامل في ظهور "الديموقراطية المسيحية"، فالكنيسة بقيت ليس فقط باعتبارها منظمة دينية وإنما أيضا كقوة سياسية أدت بصورة حتمية إلى اهتمام الدولة بالكنيسة والكنيسة بالدولة. إلا أن البعض يناقش بأن فردريك أوزنام، أستاذ القانون التجاري في جامعة ليون، كان أول من استخدم تعبير "المسيحية الديموقراطية" عام 1848عندما قال: "أعتقد في إمكانية الديموقراطية المسيحية" وكتب أيضا "دعونا نتخلى عن اشمئزازنا واستيائنا، وأن نتوجه نحو الديموقراطية". وترى مارجوت ليون أن أصول الأحزاب الديموقراطية المسيحية تعود إلى الحركات الكاثوليكية من القرن التاسع عشر، عندما أصبح التصنيع والحكومة الدستورية من السمات المميزة لأوروبا الحديثة، فبدأت تظهر قوى جديدة لذا اضطرت المسيحية إلى تكييف نفسها مع وضع اجتماعي وسياسي جديد. إلا أن هناك رأياً آخر يعتقد أن الأحزاب المسيحية الديموقراطية ظهرت ردا على الاشتراكية والشيوعية الصاعدة، فيما يعتقد رأي ثالث أنها ظهرت بعد الحرب العالمية استجابة لحالة البؤس والدمار الذي خلفته الحرب وللانحلال الأخلاقي الذي ساد في تلك الفترة فكانت هناك حاجة للنهوض مجددا بالأخلاق المسيحية الأصيلة.
فيما نجد أن هناك من يميز بين بداية عمل الأحزاب المسيحية من الناحية السياسية والناحية الاجتماعية، حيث نجد أن بعضهم يعتقد أن بداية عمل الأحزاب الديموقراطية المسيحية كانت في الميدان الاجتماعي ولم يكن في الميدان السياسي. ويستدل هذا الرأي بصحة رؤيته ببروز حركات تسمى حركات "الإصلاح الاجتماعي المسيحي"، التي نشأت لإصلاح الأوضاع الاجتماعية القائمة في أوروبا بعد الحرب. ويعتبر بأن عملها نجح أكثر في المناطق الريفية منها في الحضرية، كما نجحت في الميدان الاجتماعي أكثر منه من العمل السياسي. أما عن سبب التركيز على الميدان الاجتماعي أكثر من السياسي في البداية حسبما يرى البعض، لأن سلطة الكنيسة كانت قلقة من المشاركة السياسية، وذلك لأن جذور الحكومات السياسية كانت ليبرالية معادية للكنيسة ومعادية لنفوذها.
إلا أنه لاحقا عملت الكنيسة على تشجيع ظهور أحزاب كاثوليكية مسيحية، لاسيما في الأوقات التي تكون فيها العلاقة بين الدولة والفاتيكان فاعلة.
رغم تشجيع الكنيسة على إنشاء أحزاب مسيحية كاثوليكية إلا أنه تم توجيه العديد من الاتهامات لتلك الأحزاب، ومن بين تلك الاتهامات أنها كانت أدوات في يد الكنيسة فخسرت في البداية تلك الأحزاب شعبيتها داخل أوروبا، في حين حصلت الأحزاب القومية على هذه الشعبية، لكن تدريجيا استطاعت أن تسترد بعضا من شعبيتها لاسيما بعد أن تمكنت الكنسية من إقامة علاقات جيدة مع الدولة القومية. ومن التهم الأخرى التي وجهت ضدها هي أن معتقداتها غامضة أكثر من الإيديولوجية الشيوعية أو الاشتراكية. فنجد أن الأحزاب المسيحية تتبنى مصالح اجتماعية وسياسية لا تمت بصلة تذكر بالموضوعات الدينية أحيانا. وطورت سياساتها وإرشاداتها مستعيرة في تطويرها من أحزاب أخرى.
عند النظر لظهور الأحزاب المسيحية وتحديدا الكاثوليكية منها من حيث انتشارها في مناطق أوروبا نجد أن بريطانيا لا يوجد فيها أحزاب مسيحية ديموقراطية، وفي كل من إيطاليا وفرنسا نجد أن الأحزاب المسيحية فيها كانت بطيئة في الظهور، حيث كان هناك عداء صريح بين الكنيسة والدولة، في حين نجد أنها تطورت بشكل أسرع في بلدان مثل ألمانيا، حيث كان الكاثوليك أقلية تسعى إلى حماية حقوقها.
ومن الملاحظ أن هذه الأحزاب تطورت في عزلة نسبية عن بعضها البعض، وإن كانت هناك بعض المحاولات لإيجاد اتحاد يضم الأحزاب المسيحية. ومن ذلك المحاولة التي حصلت في عام 1925، مع قدوم الفاشية عندما أقام الإيطاليون بقيادة دون ستارزو (don Sturzo) في باريس الأمانة الدولية للأحزاب الديموقراطية للإلهام المسيحي،ليس فقط لتنسيق الأنشطة بينها ولكن لتحذير العالم ضد الأخطار التي تهدد الحرية والديموقراطية. إلا أن الألمان والنمساويين والتشيكيين واليوغوسلاف لم يتمكنوا من حضور اجتماعات أمانة الأحزاب المسيحية واستمرت لغاية اندلاع الحرب عام 1939، ومن ثم تأسس الاتحاد الدولي الديموقراطي في لندن، حيث استمر طوال سنوات الحرب، وذلك بدعم من المنفيين من الأحزاب المسيحية الديموقراطية في فرنسا، وإيطاليا، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وهولندا، وبلجيكا.
ومما تمكن ملاحظته على الأحزاب المسيحية أنها بدأت تأخذ توجها نحو اليسار شيئا فشيئا، وذلك بعد الحرب وبعد أن أخذت النساء في أوروبا حقها في الانتخاب، وكذلك أصبحت الدساتير الأوروبية أكثر ديموقراطية وتوجه تلك الدساتير أكثر نحو اليسار انعكس ذلك على إعادة ظهور الكاثوليكية السياسية ذات المسحة اليسارية. فبتنا نشهد وجود أحزاب مسيحية ديموقراطية في معظم دول أوروبا وفي بعضها أصبح توجهها أكثر نحو اليسار، ووصل الأمر في بعض الدول الأوروبية مثل النمسا بأن تحالف فيها الحزب الاجتماعي المسيحي مع الاشتراكيين في أول تحالف للجمهورية النمساوية الجديدة. وفي بعضها الآخر نجد بداخلها أجنحة يمينية ويسارية كما كان الحال بالنسبة لبلجيكا.
بعد أن أخذنا لمحة عامة عن الأحزاب المسيحية الديموقراطية بشكل عام والتمييز بينها وبين المسيحية الديموقراطية، سننتقل للحديث عن أبرز الأحزاب المسيحية الديموقراطية بشكل أكثر تخصيصا في كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
فرنسا
ظهر حزب الحركة الجمهورية الشعبية (Mouvement Républicain Populaire/MRP) المسيحي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن يخطط فقط للتوفيق بين الكاثوليكية التقليدية مع العمال المعزولين، وإنما بدأ أيضا في خلق مناخ سياسي جديد داخل فرنسا، وهي محاولة جريئة لتجديد الحياة السياسية والاجتماعية بعد سنوات الاحتلال. وقد تنوع ناخبو الحزب من رجال الأعمال، والعمال، والموظفين، والمزارعين، ونسبة كبيرة من الناخبين من النساء (على الرغم من أن المرأة لم تكن مفضلة في مكاتب الحزب). ومع أن الحزب ضم في صفوفه بعض البروتستانت الفرنسيين واليهود، وكثير منهم تم تعيينهم في وظائف بارزة في الحزب للتأكيد على طابعه غير المذهبي. إلا أنه يعتبر حزبا كاثوليكيا. وذلك بسبب الدعم الذي يتلقاه من المناطق الكاثوليكية من فرنسا، وبسبب اتخاذه موقفا كاثوليكيا تقليديا بشأن مسائل مثل الطلاق، وتنظيم النسل. وبالنسبة لأهدافه السياسية، فإن الحزب يسعى لطرح نفسه بديلا عن الماركسية الجماعية والفردية اليمينية المحافظة. ويهدف إلى إنهاء العداء الطويل بين الكنيسة والدولة في فرنسا، وإدخال معايير أخلاقية في الحياة العامة، ولكن بالرغم من هذا الشعور، وجد الحزب كغيره من الأحزاب الديموقراطية المسيحية بأنه من الصعب التوفيق بين هدفه من إدخال معايير أخلاقية في الحياة العامة وحاجته لتحقيق النجاح الانتخابي. إضافة لتأييده لتأميم الصناعات الرئيسية، وتوسيع الدور الاجتماعي للدولة، وزيادة النفوذ لنقابات العمال، إلى جانب التحديث الاقتصادي والتعاون الأوروبي. أما بالنسبة لنظرته الاجتماعية، فيعتبر الأسرة أنها وحدة أساسية في المجتمع ودور الدولة هو الحامي والمنظم للأسرة والمجتمع، دون السعي لتحل محله. وحول نظرته الاقتصادية والسياسية، فيرى ضرورة توفير قدر أكبر من المساواة في توزيع الدخل، واحترام حقوق الجميع ويعارض الرأسمالية على نفس القدر لمعارضته للدولة الشمولية. بالنظر لتطور مساره التاريخي، نجد أن الحزب تفاجأ عام 1945 بنجاحه الساحق الذي حققه في الانتخابات، ما يقارب 5 ملايين صوت، حيث احتل المرتبة الثانية بعد الشيوعيين، ودخل بائتلاف حكومي. وفي عام 1946، كان الحزب أكبر حزب فرنسي. وفي نيسان/ابريل عام 1947 دخل في علاقة سيئة مع تجمع الشعب الفرنسي (Rassemblement du Peuple Francais/RPF) الذي انشأه ديغول، وكانت رؤية الحزبين متعارضة. تحالفها غير المريح مع الاشتراكيين كُسر في عام 1951، عندما أدى ضغط الديغوليين إلى اعتماد قانون بارانج (Barange) من أجل مساعدة الدولة المشروع الذي كان من المستحيل على الحزب عدم دعمه، على الرغم من تكلفة خروج الاشتراكيين من الائتلاف، وما ترتب على ذلك من عجز الحزب عن تمرير الكثير من البرامج الاجتماعية. وبعد بضع سنوات وقدر كبير من خيبة الأمل للحزب بتمرير برامجه الاجتماعية، بدأ ينصب اهتمامه تجاه قضايا أوروبية، فساعد على إطلاق المجموعة الأوروبية للفحم والصلب. أما في المسائل الاستعمارية كانت سياسة الحزب أقل تقدمية: فقد عارض حركات الاستقلال في الشرق الأقصى وشمال أفريقيا، وفضل بقاء الحكم الفرنسي ونفوذه. وشارك وزراء الحزب في الحكومات الديجولية للجمهورية الخامسة لغاية أيار/مايو 1962، إلا أنه وبسبب حالة الفوضى التي مرّ بها الحزب بدأ الدعم الانتخابي له يتناقص لأسباب سياسية مختلفة فبدا مستقبل الحزب عرضة للتكهنات.
ألمانيا
ظهر الاتحاد الديموقراطي المسيحي في عام 1945 في ألمانيا، والسبب الأبرز لظهوره كان انهزام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية حيث كانت ألمانيا مقهورة ويهيمن عليها الجوع واليأس والبؤس، ففي الوقت الذي انشغل فيه كثير من الناس من أجل الطعام والمأوى، تطلعت أقلية نشطة سياسيا لتأسيس مجتمع جديد يرتكز على الكرامة الإنسانية، وحرمة الفرد، والصدقة المسيحية، وحقوق الإنسان، والديموقراطية. حيث كانت المثل الديموقراطية يتم الوعظ بها من على منابر الكنائس والكراسي الأكاديمية من قبل الرجال الذين شعروا بأنهم لم يفعلوا شيئا لمقاومة صعود النازية أو الحد من صعودها.
وعلى الرغم من تردد رجال الدين والكهنة الكاثوليك من إعطاء تأييدهم للحزب الديموقراطي المسيحي الذي تضمن البروتستانت، وكذلك تردد الكنائس البروتستانتية في دعم الحزب لأن الكاثوليك يشكلون أغلبية الحزب، إلا أنه في نهاية المطاف عمل الكاثوليك والبروتستانت معا لدعم الحزب بسبب خوفهم من الشيوعية ولرغبتهم في نهضة حقيقية دينية ورغبة في التجديد الاجتماعي الذي يؤثر أيضا على الاشتراكيين والليبراليين، ورغبتهم في تدشين بداية جديدة لمرحلة ما بعد الحرب.
بالنسبة لنظرة الحزب الاجتماعية يؤمن في الديموقراطية، حيث أكد على بناء نظام اجتماعي جديد يقوم على احترام حقوق الفرد، ودعا للاعتراف بالأسرة بوصفها وحدة اجتماعية حيوية، ودعم حقوق النساء والأطفال، وحق الآباء في اتخاذ قرار بشأن تعليم أبنائهم. وبالنسبة لرؤيته للمسائل الاقتصادية والسياسية فقد شهدت مرحلتين في المرحلة الأولى: اهتم الحزب بدعم التأميم، وتحديدا بالنسبة لبعض الصناعات الأساسية، ودعا لإلغاء التكتلات الاحتكارية والرقابة الحكومية الفعالة للاقتصاد. ورفض العودة للممارسات الرأسمالية التي كانت سائدة قبل الحرب، وفي المرحلة الثانية: شهد الحزب تحولا نحو الاقتصاد الحر بسبب طغيان أنصار الرأسمالية في الحزب. فقد تشكل حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي (CDU/CSU) من كل من حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي وبذلك أصبح تجمعا يضم الليبراليين والاشتراكيين والكاثوليك والبروتستانت والعمال وأرباب العمل فأصبح حركة ذات برنامج مطاط يتسع لأكبر عدد من الأعضاء، ونجح الحزب بالتخلص من التزمت الأيديولوجي. وتمتع بنسبة عالية من أصوات المزارعين والنساء، ونظر بأهمية لأصوات النساء نظرا لكثرة النساء بالنسبة لسكان المانيا بعد الحرب العالمية. كما ان الحزب بذل جهودا ترمي إلى كسر العداوات الطبقية فجذب شريحة كبيرة من المجتمع الألماني. ومن أهم إنجازاته الملحوظة، أنه استطاع إيجاد طريقة للتعايش السياسي بين الكنائس المسيحية.
أما بالانتقال لتطوره التاريخي، فنجد أنه ولأكثر من عشر سنوات سيطر أديناور على الحياة السياسية في ألمانيا كمستشارها وكرئيس للحزب الديموقراطي المسيحي. لكن الانتصارات التي حققها الحزب اعتبرت انتصارات شخصية لأديناور، وأدى كبر سن أديناور واستمراره في السلطة لما يزيد على العشر سنوات بالإضافة للتطور الذي شهده الحزب الاشتراكي الألماني إلى التقليل من الرصيد الانتخابي للحزب، علاوة على عدم تمتع خليفة أديناور لودفيج إيرهارد بتأييد كافي داخل الحزب. ثم بدأت فترة انحدار الحزب بعد الكساد الذي حل بألمانيا عام 1966، إلى أن استلم زعامة الحزب هلموت كول ليعود الحزب بالسلطة بعد 13 عاما من بقائه بالمعارضة.
إيطاليا
عندما انتهت الفترة الفاشية الطويلة عام 1943، عاد حزب (Partito Popolare/PPI)القديم إلى الوجود تحت اسم (Partito della Democrazia Cristiana/DC)، وسرعان ما نافسته الاشتراكية أو الشيوعية في شعبيته مع الجماهير. وسعى إلى تجنب أي صلة له بالشيوعية الملحدة.
وحول رؤية الحزب الاجتماعية فقد كان يحبذ الحرية والمبادئ الديموقراطية ويدعم حقوق الأسرة، والإصلاحات الاجتماعية الطموحة. ورغم اعترافه النظري بحقوق العمال، إلا أنه لم يحرز أي تقدم على هذه الجبهة؛ بسبب تخوفهم انه في بلد مثل ايطاليا قد تذهب ثلث الأصوات إلى الشيوعيين أو المتعاطفين مع الشيوعية. فيما كانت رؤيته الاقتصادية بدعم الملكية الخاصة لكنه بذات الوقت أبقى على العديد من المشروعات المؤممة القوية والمشروعات شبه المؤممة الموروثة عن الفاشية. وعمل الحزب على التنمية وإصلاح الأراضي أكثر من الجوانب الأخرى.
ويضم الحزب في صفوفه شرائح مختلفة من كبار ملاك الأراضي الذين أيدوا نظام الملكية الفاشية، وعمال، وصناعيين، وحرفيين معظمهم من الكاثوليك. وبذلك مثل الحزب صورة مصغرة من المشهد الإيطالي والعامل الوحيد الذي يؤدي لتماسكه كان الاحترام المشترك للكاثوليكية.
بالانتقال لتطور مساره التاريخي نلاحظ أن رئيس الحزب دي جاسبر ورئيس إيطاليا رغم أنه لم يفز بغالبية مطلقة في أول انتخابات برلمانية حرة عام 1948 إلا أنه حكم من خلال التحالف، والتحالف هو الأساس الذي ارتكزت عليه الحكومات الأربع عشرة. وقد حدث تعاون مسيحي ديموقراطي مع الاشتراكيين رغم وجود معارضة من الكاثوليك وأيضا من الاشتراكيين، نتيجة لذلك وفي انتخابات 1963 اتهم الحزب بخيانته للدين والأخلاق والحضارة الغربية. واستمرت الحكومات الائتلافية بين الحزب الاشتراكي الإيطالي والحزب الديموقراطي المسيحي الإيطالي حتى اليوم، واستمر تماسك الحزب بسبب الانضباط الخارجي الذي فرضته الكنيسة لخوفها من انقسام الحزب وفقدانه السلطة لصالح الاشتراكيين. وتعتبر إيطاليا حالة استثنائية لأن فيها أكبر حزب سياسي معلن ملحد في أوروبا وأيضا يوجد بها مقر الباباوية (الفاتيكان). فالأحزاب المسيحية الديموقراطية الأكثر بعدا عن الفاتيكان والأقل انخراطا في سياساتها نجحت بتحرير نفسها من سيطرة الكنيسة لدرجة أن نظرت للكنيسة على اعتبارها واحدة من جماعات المصالح التي لها مطالب عليها.
بعد هذا الاستعراض السريع لنشأة الأحزاب المسيحية الديموقراطية في أوروبا، تجدر ملاحظة أن هذه الأحزاب تعمل في دول علمانية وتنسجم برامجها الانتخابية مع هذه الأطر، ورغم أنها اصطبغت بصبغة دينية إلا أن أمور السياسة كانت تطغى على أمور الدين في كثير من الأحيان، لاسيما من تحالف بين الاشتراكيين وتلك الأحزاب.
ومما تمكن ملاحظته أيضا أن الأحزاب المسيحية ظهرت في بعض الدول الأوروبية كقوة سياسية فاعلة بشكل كبير، كما كان الحال بالنسبة لألمانيا ولم يكن لها ذات الدور في دول مثل بريطانيا. كما يمكن ملاحظة أن الأحزاب المسيحية الديموقراطية تدعم التكامل الأوروبي، وليس من الغريب أن نجد ثلاثة من مهندسي الاتحاد الأوروبي من المسيحيين الديموقراطيين. ومن أبرز الأدوار التي قامت بها إعادة تحسين العلاقات بين الكنيسة والدولة، بعد أن مرت فترة عداء طويلة بينهما.
كما تجدر الملاحظة إلى أن الأحزاب المسيحية الديموقراطية استمدت كثير رؤيتها -مع وجود اختلاف في الرؤية من حزب لآخر- من الديموقراطية المسيحية فأتباعها عادة ما يؤكدون على أهمية التراث المسيحي، وأهمية الأخلاقيات المسيحية. ويرون الاقتصاد لخدمة الإنسانية، وليس العكس، وإن كانوا لا يرفضون الرأسمالية من حيث المبدأ؛ ويرون أهمية واجب الدولة نحو مواطنيها. كما أنهم عادة محافظون اجتماعيا، وبالتالي يعارض معظمهم الإجهاض والزواج المثلي. وقد تحولت بعض الأحزاب في أوروبا، في العقود الأخيرة، تدريجيا نحو الجناح اليميني لليبرالية الاقتصادية التي تنادي بتقليل دور الدولة في الاقتصاد.
ويصف الباحث جيفري روبرتس الأسس الأيديولوجية للديموقراطية المسيحية بأنها:
ضمت العديد من الرؤى في إطار أوسع من المبادئ المسيحية فهي:
ـ تشارك الليبرالية في التأكيد على حقوق الإنسان والمبادرة الفردية.
ولكنها تؤكد على حقيقة أن الفرد جزء من المجتمع وعليه واجبات نحوه.
ـ وتشارك المحافظين في الأخلاقيات المحافظة (في أمور مثل الزواج والطلاق والإجهاض والموقف من المثليين الخ). ولكنها تقبل بالرؤية التطورية للتغيير ـ مثلا في هيكل المجتمع.
ـ وتشارك الاشتراكية في التأكيد القوي على التضامن الاجتماعي (دولة الرفاهية، أهمية القضاء على الفقر والضرائب العالية على الأثرياء الخ) والاستعداد لتقييد قوى السوق. ولكنها ترفض صراع الطبقات وتساند الرأسمالية واقتصاد السوق.
|