تفاصيل الخبر
هيكل والخيط الرفيع
2016-02-21
عبد الرحيم مراد
أنتمي إلى الجيل الذي عرف السياسة من البوابة الناصرية، وتفتّح عقله وفكره وانتماؤه العربي على صوت جمال عبد الناصر، الذي كنا نزداد انشداداً إليه منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، ثم ازداد ارتباطنا به أكثر مع تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا في مثل هذا الشهر (شباط) من سنة 1958، حيث كنا مع الحشود الزاحفة إلى دمشق بهذه المناسبة طيلة سنوات هذه الوحدة، متزاحمين أمام قصر الضيافة، انتظاراً للإطلالة المهيبة "للريّس" مــرددين بصوت واحد: بدنا كلمة يا جمال.تغلغلت الناصرية في وجداننا، وترسخت في عقولنا، ورحنا كجيل صاعد، إحساساً واقتناعاً بصواب وجهتها، نبحث عما يزيدنا معرفة بمبادئها وأفكارها والإضاءة على مواقف قائدها.ووجدنا في المقالة الأسبوعية "بصراحة" الذي كان يكتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل يوم الجمعة في جريدة "الأهرام"، الكثير مما كنا نريده ونبحث عنه، وكنا ننتظر موعده بفارغ الصبر كدرس واجب القراءة والفهم والتحــــليل، ومنه عرفـنا الكثير عن المنظومة الناصرية، في إطارها الوطني والعربي والدولي.ولم نكن دائماً على وفاق معه في كل ما كتبه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتاباته عن 15 أيار/1971، وانقلاب أنور السادات على الناصرية والناصريين، الذي أخذ مصر إلى وجهة أخرى، كان الأستاذ هيكل بعد ذلك واحداً من ضحاياها، فذاق مرارة السجن والمنع من الكتابة في الصحف المصرية. وكان كتابه "خـريف الغضب" بعد ذلك، تجسيداً بالكلمة عن معاناته مع السادات وكشفاً نفسياً لهذه الشخصية التي كان له دور واضح في وصولها إلى السلطة.أما علاقة هيكل بعبد الناصر، فهي من النوع الـنادر، بين زعيم سياسي استثنائي، و"صحافي" اجتهد كثيراً لكي يحتفظ لنفسه بحق الرأي وكتابته من جهة، وأن يكون قلمه لسان حال الزعيم من جهة أخرى، لأنه كان يدرك في أعماقه بأنه لولا قربه من عـبد الناصر، ما كان لما يكتبه هذا الوهـج، وهذا الانتشار، وهذه المكانة عند عامة القراء، وعند كبار رؤساء الدول وأصحاب القرار. إنه الخيط الرفيع بين خزانة المعلومات والأسرار، وبين ذكاء توظيفها في الكتابة وكأنها مجرد عمل صحافي محترف، ظل وفياً وفاءً تاماً لجمال عبد الناصر، فيما ألف من كُتُب ونشر من مقالات، وحكى لوسائل الإعلام، وستبقى بعض كتبه وثائق ناصرية كملفات السويس و "سنوات الغليان والانفجار"، وهي جزء مما هو أمانة لديه فكان نعم الأمين.رحم الله محمد حسنين هيكل وأدخله فسيح جناته، وخالص العزاء لعائلته ولأسرته الكبرى ـ الصحافة ـ ولكل الذين تركت كتاباته لديهم أثراً من الناصرية والعروبة.