تفاصيل الخبر
نحن والآخر
2016-03-20
د. عبدالعزيز المقالح
في ذروة الأزمات العربية اللولبية يبقى موضوع الآخر واحداً من القضايا المتعاظمة والضاغطة في حياتنا. وهناك من الكتابات الجادة ما يثبت بوضوح أن مشكلتنا نحن عرب المشرق والمغرب ذاتية وعلاقتها بالآخر ثانوية تماماً، حقاً إن هذا الآخر لعب دوراً بارزاً في تضليلنا وفي إبعادنا عن الطريق الصحيح لفترة طويلة ولا يزال يمارس مهمته بذكاء أحياناً وبغباء في أغلب الأحيان، إلاَّ أن المسؤولية لا تقع على عاتقه بل تقع على عاتقنا نحن المعنيين وضحايا هذا الآخر، ومن المهم أن نتبين أن الاستجابة لما كان ولما لا يزال يريده منا كانت أكبر من المتوقع ووصلت حداً ما كان ينبغي أن تصل إليه، وأن أمة بأكملها تتخلى عن إرادتها بطواعية وتتحول إلى أداة طيعة تقاد من بعيد بخيوط غير مرئية وهي في حالة لا تختلف كثيراً عن حالة المنوَّم مغناطيسياً.
ويحدثنا التاريخ السياسي القديم منه والحديث أن شعوباً كثيرة كانت تواجه الآخر الذي يختلف عنها أو يسعى إلى تركيعها بحنكة ووعي، وعرفت كيف تتجنب الوقوع في حبائل هذا الآخر من خلال وعيها لأهدافه أولاً، ومن خلال أساليب تعاملها معه ثانياً، وكان شعورها الوطني دافعاً قوياً في مواجهته والتغلب عليه. لكن حين تفقد الشعوب إحساسها بوطنيتها فإن الخلاص من سيطرة الآخر ودحر نفوذه يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً، فالوطنية بمعناها العميق هي ضمان السيادة ودرع الاستقلال. وعندما يضعف الشعور الوطني أولا يكون في المستوى المطلوب فإن الصراع مع الآخر يصير حالة ثانوية لا تشكل الأجندة الأولى في البرنامج السياسي والاقتصادي للوطن المبتلى بالآخر ونفوذه المتجدد.
ولا ننسى أن هناك شعوباً، وأخشى أن نكون منها، يتملكها وهْمٌ بأهمية الآخر وضرورته ليكون شماعة أو مشجباً تعلِّق عليه عجزها وهزائمها وتخلّفها الاقتصادي والصناعي. إن وضعاً كهذا يفرض على هذه الشعوب ألا تتخلى عن مهمتها الأساسية وهي البناء وألا تعطي اهتماماً مبالغاً فيه للشعار الذي طال أمده "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فليس مبرراً لشعب من الشعوب أن يوقف كل أنشطة التعبير والتغيير بحجة أنه في حالة مواجهة مع خصوم بلاده وأعدائها. كما أن مواجهة الخارج لا تتم إلاّ ببناء الداخل ولا يمكن تجميد كل الأنشطة الحيوية انتظاراً لساعة الانتصار في معركة كان لها بداية ولا تكاد تلوح لها نهاية، بعد أن أخذت الكثير من وقت الحكام ومن وقت المواطنين وأسهمت في رفع درجة معاناتهم إلى حد الغليان.
ولعل أسوأ ما في "موضوعة" الآخر أن شعوباً أرهقها التخلف والانصياع لمؤثراته قد اتجهت إلى اصطناع "آخر" وربما أكثر من آخر من داخل محيطها الوطني. ومن أجل ذلك احتدمت المعارك الداخلية في هذه الشعوب وأخذت أبعاداً لا حدود لمخاطرها واحتمالاتها المستعصية على الحل. وبعد أن كان الاشتباك المبرر هو مع الآخر الخارجي استعاض عنه البعض بالآخر الداخلي الذي قد يكون "أنت وأنا وأخي وأخوك"، وصار علينا التعامل بقسوة مع هذا الآخر المغلوط الذي ليس هو آخراً أن ندخل في مواجهات لا تتوقف مع أنفسنا، مع الذات الوطنية وأن نناصب بعضنا العداء. الصورة مخزية وقاتمة، ولا تليق بشعوب تعبر نحو نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهذه الصورة القاتمة لم تصنع نفسها بل صنعتها شعوب تكره نفسها وتعادي وجودها، شعوب ترغب في التطاحن وفي تبديد طاقتها في معارك تثير الضحك الذي هو أقسى من البكاء. ومن يقرأ جوانب من واقعنا العربي تحت هذا المنظور الحقيقي الواقعي يدرك إلى أي دركٍ ألقى بنا التخلف ولم يترك للعقلاء ولا للأفكار المستنيرة مكاناً صغيراً في هذا الأفق الواسع.