تفاصيل الخبر
كيف سقطت الموصل وانهارت دفاعات الجيش العراقي أمام داعش؟
2014-10-20
الجريدة ـ رويترز
كان اللواء مهدي الغراوي يعلم أن الهجوم قادم. في أواخر أيار اعتقلت قوات الأمن العراقية سبعة أعضاء في تنظيم داعش في مدينة الموصل وعلمت أن المجموعة تخطط لشن هجوم على المدينة في أوائل حزيران. وطلب الغراوي قائد العمليات في محافظة نينوى وعاصمتها الموصل تعزيزات من أكثر القادة تمتعاً بثقة رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي. ولأن الجيش العراقي كان منهكاً تجاهل الضباط الكبار هذا الطلب. كما نقل دبلوماسيون في بغداد معلومات عن هجوم وقيل لهم أن قوات عراقية خاصة ترابط في الموصل وبإمكانها التعامل مع أية تطورات.
وفي الرابع من حزيران حاصرت الشرطة الاتحادية في الموصل تحت قيادة الغراوي القائد العسكري لتنظيم داعش في العراق ففضل أن يفجّر نفسه على الاستسلام. وكان الغراوي يأمل أن يمنع مقتله الهجوم المرتقب. لكنه كان مخطئا.
ففي الساعة الثانية والنصف من صباح يوم السادس من حزيران عاد الغراوي ورجاله إلى غرفة العمليات بعد تفقد نقاط التفتيش في المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة. وفي تلك اللحظة كانت قوافل من شاحنات (البيك أب) تتقدم من اتجاه الغرب عبر الصحراء التي تقع فيها الحدود الفاصلة بين العراق وسوريا.
وكان في كل شاحنة أربعة من مقاتلي داعش. وشقت هذه القوافل طريقها إلى نقاط التفتيش التي كان في كل منها رجلان لتدخل المدينة.
وبحلول الساعة الثالثة والنصف صباحا كان المقاتلون المتشددون يحاربون داخل الموصل. وبعد ثلاثة أيام ترك الجيش العراقي الموصل ثاني أكبر مدن العراق للمهاجمين. وأدى سقوط المدينة إلى سلسلة من الأحداث التي مازالت تعيد تشكيل العراق رغم مرور أشهر. فكانت سببا في بدء هجوم استمر يومين واقترب فيه مقاتلو التنظيم لمسافة 153 كيلومترا من بغداد مما أدى لسقوط أربع فرق عراقية وأسر واستشهاد آلاف الجنود العراقيين.
وساهم هذا الهجوم في إزاحة المالكي عن منصبه كما دفع القوى الغربية وحلفاءها من دول الخليج العربية إلى بدء حملة قصف جوي لمواقع المتشددين الإسلاميين في العراق وسوريا.
لكنّ الغموض ظل حتى الآن يكتنف الظروف التي أحاطت بسقوط الموصل وبمن أصدر الأمر بترك القتال والانسحاب.
فلم تصدر رواية رسمية لما حدث ولم ينشر سوى ما رواه الجنود عن عمليات هروب جماعي من الخدمة ومزاعم من قوات المشاة بأنها اتبعت أوامر صدرت لها بالهرب.
وفي حزيران اتهم المالكي دولا بالمنطقة لم يذكرها بالاسم وقادة وساسة منافسين بالتآمر لإسقاط الموصل، لكنه لزم الصمت منذ ذلك الحين. ومع ذلك ألقت بغداد اللوم على اللواء الغراوي.
ففي أواخر آب اتهمته وزارة الدفاع بالتقصير في واجبه. وهو الآن ينتظر ما تتوصل إليه هيئة تحقيق ثم محاكمة عسكرية. وإذا كان قرار المحكمة بالإدانة فمن الممكن أن يحكم عليه بالإعدام.
وتم أيضا احتجاز أربعة من ضباط الأمن الذين كانوا يخدمون تحت إمرة الغراوي انتظارا لمحاكمتهم ولم تتمكن رويترز من الاتصال بهم. ويعتزم البرلمان عقد جلسات استماع لمعرفة ما حدث في سقوط الموصل. ويظهر تحقيق أجرته رويترز أن مسؤولين عسكريين من مستوى أرفع والمالكي نفسه يتحملون جانبا من اللوم على الأقل.
فقد شرح عدد من أرفع القادة والمسؤولين العراقيين بالتفصيل للمرة الأولى كيف استفاد تنظيم داعش من نقص القوات والخلافات بين كبار الضباط والزعماء السياسيين في العراق وحالة الذعر التي أدت إلى ترك المدينة.
ودور الغراوي في الكارثة موضع خلاف. فالغراوي من أفراد الطائفة الشيعية، ويقول محافظ نينوى وكثير من المواطنين إنه استعدى الأغلبية السنية في الموصل قبل بدء المعركة.
وساهم ذلك في ظهور الخلايا النائمة التابعة لتنظيم داعش داخل الموصل نفسها. واتهم ضابط عراقي الغراوي بأنه لم يحشد القوات لوقفة أخيرة في مواجهة داعش.
من جانبه يقول الغراوي إنه ظل صامدا ولم يصدر الأمر النهائي بالانسحاب من المدينة. ويقرّ آخرون اشتركوا في المعركة صحة هذا الزعم ويقولون إن الغراوي ظلّ يقاتل حتى سقطت المدينة. وعند ذلك فقط هرب الغراوي من ساحة المعركة.
ويقول الغراوي: إن واحدا من ثلاثة أشخاص ربما يكون قد أصدر الأمر النهائي هم عبود قنبر الذي كان في ذلك الوقت نائباً لرئيس الأركان بوزارة الدفاع أو علي غيدان الذي كان قائداً للقوات البرية أو المالكي نفسه الذي كان يوجّه كبار الضباط من بغداد بنفسه.
ويقول الغراوي: إن سِرّ مَن قرر الانسحاب من الموصل يكمن مع هؤلاء الثلاثة. ويقول الغراوي إن قرار غيدان وقنبر ترك الضفة الغربية للموصل كان سبباً في هروب جماعي من الخدمة، لأن الجنود افترضوا أن قادتهم هربوا. وأيد مسؤول عسكري عراقي رفيع ذلك.
ولم يعلّق أيّ من الرجال الثلاثة علانية على قراراتهم في الموصل. ورفض المالكي طلبات من رويترز لإجراء مقابلة لهذا التقرير. ولم يردّ قنبر بينما لم يتسنّ الاتصال بغيدان.
وقال اللواء قاسم عطا المتحدث العسكري الذي تربطه علاقات وثيقة بالمالكي لرويترز الأسبوع الماضي إن الغراوي "قبل الآخرين جميعا... فشل في دوره كقائد." وقال إن الباقين "سيكشف عنهم أمام القضاء."
ومن أوجه عديدة تعدّ رواية الغراوي لما حدث نافذة على العراق. فهذا القائد العراقي يعدّ شخصية رئيسية منذ عام 2003 عندما بدأ الشيعة يكتسبون نفوذا بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بصدام حسين وحزب البعث السنّي الذي كان مهيمناً من قبل.
وحيّا القادة العراقيون الغراوي ذات مرة باعتباره بطلا بينما يرى السنّة أنه قاتل استغل الحرب العراقية على التطرف للتغطية على عمليات ابتزاز شركات للحصول على أموال وتهديد الأبرياء بالاعتقال والقتل.
وصعد نجم الغراوي في القوات المسلحة التي تسودها الانقسامات الطائفية والفساد والسياسة. وأصبح الغراوي الآن أسير هذه القوى نفسها.
ولا يوضح قرار معاقبته وتجاهل دور الشخصيات الأعلى رتبة مدى صعوبة إعادة بناء القوات المسلحة فحسب بل يبين أيضا لماذا تواجه البلاد خطر التفكك. وأصبح الغراوي على حد قوله كبش فداء وضحية للاتفاقات والتحالفات التي تُبقي النخبة السياسية والعسكرية في العراق في مواقعها. وأحيل غيدان وقنبر موضع ثقة المالكي إلى التقاعد. ويقول الغراوي الذي يعيش في مدينته الواقعة في جنوب العراق إن رؤساءه ألقوا عليه أخطاء نظام متصدّع.
وقال الغراوي لرويترز خلال زيارة لبغداد قبل أسبوعين "هم يريدون فقط إنقاذ أنفسهم من تلك الاتهامات. التحقيق يجب أن يشمل أعلى القادة والقيادات... على الكل أن يقول ما لديه حتى يعرف الناس."
الطريق إلى الموصل
وقد توقع الغراوي أن تكون الموصل جحيما. ففي السنوات التي أعقبت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003 أصبحت المدينة مركزا لتنظيم القاعدة وحركة التمرد السنّي.
ويقيم بعثيون سابقون وقادة عسكريون سابقون في محافظة نينوى. كذلك كان للكرد موطئ قدم في المدينة. فبعد سقوط صدام أصبحوا يهيمنون على قوى الأمن والحكومة المحلية.
وفي عام 2008 وبعد عامين من تولي المالكي رئاسة الوزراء بدأ يعمل على تأكيد سلطته في المدينة. ولأنه كان يتوقع احتمال أن يغدر الكرد به بدأ حملة تطهير للضباط الكرد من فرقتي الجيش الموجودتين في الموصل ويضع رجاله لحماية مصالح بغداد.
وعيّن المالكي مجموعة من القادة الذين استعدوا الكرد والسنّة في المدينة. وفي عام 2011 وقع اختياره على الغراوي.
كان الغراوي بالفعل واحدا ممن نجوا من ويلات النظام السياسي العراقي. ورغم كونه شيعياً فقد كان عضوا في الحرس الجمهوري في عهد صدام حسين. وفي عام 2004 وبعد سقوط صدام دعمت واشنطن الغراوي في قيادة واحدة من فرق الشرطة الوطنية الجديدة في العراق.
وكانت تلك الفترة في غاية القسوة. وقد تم ربط قوى الأمن التي هيمن عليها الشيعة بما فيها الشرطة بسلسلة من عمليات القتل خارج نطاق القانون. واتهم الأميركيون الغراوي بإدارة كتائب الشرطة كواجهة للميليشيات الشيعية التي ألقيت عليها مسؤولية قتل المئات من الناس أغلبهم من السنّة.
وحقق مسؤولون أميركيون وعراقيون مع الغراوي لقيادته "الموقع أربعة" وهو سجن شهير ببغداد تردد أن السجناء كانوا يعذبون فيه أو يباعون لواحدة من أكبر الميلشيات وأكثرها وحشية.
وفي أواخر عام 2006 تحرك المسؤولون الأميركيون لوقف أعمال القتال وضغطوا على المالكي لصرف الغراوي من الخدمة ومحاكمته بتهمة التعذيب. وكلف المالكي الغراوي بمهمة أخرى لكنه لم يشأ أن يحاكمه.
ويتذكر السفير الأميركي ريان كروكر تبادل الصياح مع المالكي بسبب الغراوي. وقال كروكر عام 2010 "من دواعي شعوري بخيبة الأمل وهي كثيرة عدم الإيقاع بهذا الفاشل البائس."
ويقول الغراوي إنه لم يرتكب أية أخطاء خلال تلك الفترة وليس لديه ما يعتذر عنه. وأضاف إنها كانت حربا أهلية. وكان التمرد السنّي مصرّاً على القضاء على الحكومة التي يقودها الشيعة. كما قتل شقيق الغراوي على أيدي مقاتلين من السنّة.
ويقول الغراوي "كنا نعمل في ظل ظروف خاصة. ومنعنا الحرب الأهلية. بل إننا في واقع الأمر أوقفناها. فأين هي أخطاؤنا؟"
جلد الفهد وتحذير
بعد إنزال رتبته ظل الغراوي ينتظر فرصة ملائمة فعاش حياة كئيبة في فيلته ذات الإضاءة الخافتة في المنطقة الخضراء تزينها صور قديمة، من بينها بضع صور له مع أعضاء في الكونغرس الأميركي ووزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد.
وأوكلت إليه سلسلة من المهام البسيطة. وظل مكتب المالكي يقترح اسمه بانتظام لمناصب أعلى، وظل المسؤولون الأميركيون يعرقلون هذه الاقتراحات. وبينما كانت القوات الأميركية تستعد لمغادرة العراق عين المالكي الغراوي في أعلى منصب قيادي للشرطة الاتحادية في الموصل.
وهناك استعاد الغراوي مجده السابق. وعرض التلفزيون العراقي صورته وهو يقف في سهول نينوى بالزي المموه الأزرق وهو يعلن نجاح عملية لإحباط مؤامرة إرهابية. وكافأه المالكي بمنحه عقارا سكنيا في أحد الأحياء الراقية في بغداد.
وفي بيته بالعاصمة وأثناء إجازة قصيرة من الموصل في شهر كانون الأول الماضي جلس الغراوي بكلّ زهو على أريكة خضراء وحوله جدران مطلية باللون الأصفر الشاحب وتحت قدميه سجادة من جلد فهد وأرضية تشع بلاطاتها بريقا لامعا. وتدلت من على الحائط صورة زيتية للغراوي. وراح الغراوي يتباهي بالاعتقالات وهو يقلب مجموعة من صور المسلحين الذين اعتقلهم رجاله.
ورغم انتصاراته كان صريحا في ما يتعلق بالتمرد الذي عاود الظهور العام الماضي مع تنامي شعور السنّة بخيبة الأمل إزاء حكم المالكي. وقال إن الحرب في أفضل الأحوال تمثّل ورطة.
وقال إن تنظيم القاعدة الذي كان في ذلك الوقت التنظيم الأم لتنظيم داعش قبل أن ينفصل عنه الأخير هذا العام يحقق مكاسب. وأضاف "يجب أن أعترف أن القاعدة أقوى من أي وقت مضى. فالقاعدة تحتاج الموصل وتنظر إلى الموصل باعتبارها إمارتها."
وقال الغراوي إنه تنقصه القوات اللازمة لتأمين المحافظة. كذلك فإنه واجه معارضة متنامية من السنّة في الموصل الذين اتهموه ورجاله بارتكاب عمليات قتل خارج نطاق القانون. ويرفض الغراوي هذه الاتهامات.
وفي آذار عيّنه المالكي قائد العمليات في نينوى. وكان الأمن في العراق يتدهور. ففي محافظة الأنبار الواقعة إلى الجنوب الغربي من نينوى كانت ثلاث فرق عسكرية قد شاركت بسبب أعمال العنف في الحرب على مقاتلي داعش والعشائر السنّية الغاضبة.
وفقدت الحكومة السيطرة على الطرق الرئيسية من بغداد إلى الشمال. واعتاد مقاتلو داعش إقامة نقاط تفتيش وهمية على الطرق ونصب الكمائن للسيارات.
السقوط
بينما كان مقاتلو داعش يسابقون الريح صوب الموصل قبل فجر يوم السادس من حزيران كان المسلحون يأملون، كما قال واحد منهم في ما بعد لصديق في بغداد، أن يستولوا على إحدى الضواحي لعدة ساعات. فلم يتوقعوا أن تنهار سيطرة الدولة.
ودخل المسلحون بالمئات خمسة أحياء، وخلال الأيام القليلة التالية ارتفع عددهم متجاوزاً 2000 مقاتل ورحّب بهم سكان المدينة السنّة الغاضبون.
كان خط الدفاع الأول عن الموصل هو اللواء السادس بالفرقة الثالثة من الجيش العراقي. وعلى الورق كان قوام اللواء 2500 رجل. أما الواقع فكان أقرب إلى 500 رجل! كذلك كان اللواء تعوزه الأسلحة والذخائر وفقا لما قاله أحد ضباط الصف.
فقد سبق نقل المشاة والمدرعات والدبابات إلى الأنبار حيث قتل أكثر من 6000 جندي وهرب من الخدمة 12 ألفاً غيرهم. وقال الغراوي إن ذلك لم يبقِ في الموصل أية دبابات كما أن المدينة كانت تعاني من نقص المدفعية.
كذلك كانت هناك أيضا مشكلة الجنود الوهميين وهم الرجال المسجلون في الدفاتر الذين يدفعون للضباط نصف رواتبهم، وفي المقابل لا يحضرون لثكناتهم ولا يؤدون ما عليهم من واجبات.
وكان محققون من وزارة الدفاع أرسلوا تقريرا عن هذه الظاهرة لرؤسائهم عام 2013. وقال ضابط صف ترابط وحدته في الموصل إنه لم يحدث أي تقدم في هذا الشأن.
عموما كان من المفترض أن يكون عدد رجال الجيش والشرطة في المدينة ما يقرب من 25 ألفا. أما في الواقع فلم يكن العدد يزيد في أحسن الأحوال على عشرة آلاف كما قال عدد من المسؤولين المحليين وضباط الأمن.
وفي حي مشرفة وهو من نقاط الدخول إلى المدينة كان عدد الجنود في الخدمة ليلة السادس من حزيران 40 جندياً فقط.
وعندما تسلل المتشددون إلى المدينة استولوا على عربات عسكرية وأسلحة. وقال ضابط الصف الذي يعمل في المدينة أن المتشددين شنقوا عددا من الجنود وأشعلوا النار في جثثهم وصلبوا البعض وأشعلوا النار فيهم على مقدمة سيارات الهمفي.
وعلى الطرف الغربي من حي 17 تموز شاهد رجال الشرطة من الكتيبة الرابعة سيارتي همفي و15 شاحنة بيك أب تقترب وهي تطلق نيران المدافع الرشاشة بكثافة.
وقال العقيد ذياب أحمد العاصي العبيدي قائد الكتيبة "في كتيبتنا كلها عندنا مدفع رشاش واحد. أما هم ففي كل بيك أب مدفع رشاش."
وأمر الغراوي قواته بتشكيل صف دفاعي لتطويق أحياء الموصل الغربية المحاصرة من جهة نهر دجلة. وقال الغراوي إنه تلقى اتصالا هاتفيا من المالكي للصمود حتى وصول قنبر نائب رئيس الأركان بوزارة الدفاع وغيدان الذي كان يقود القوات البرية العراقية.
وقنبر من أفراد العشيرة التي ينتمي إليها المالكي بينما كان غيدان يساعد المالكي منذ فترة طويلة في العمليات الأمنية وفقاً لما قاله ضباط مسؤولون عراقيون كبار.
وكان الاثنان أعلى رتبة من الغراوي وتوليا تلقائياً بالكامل القيادة في الموصل في السابع من حزيران.
وفي صباح اليوم التالي التقى الغراوي محافظ نينوى أثيل النجيفي. ولم يكن المحافظ صديقا بل سبق أن اتهم الغراوي بالفساد وهو اتهام نفاه الغراوي.
والآن كان مصير المدينة يتوقف على الغراوي. وسأل أحد مستشاري النجيفي الغراوي عن أسباب عدم قيامه بهجوم مضاد. وقال له الغراوي "لا يوجد ما يكفي من القوات."
وكان الفريق بابكر زيباري يرأس الغراوي ورئيساً لهيئة الأركان للقوات المسلحة في بغداد. واتفق في الرأي أنه لا يوجد ما يكفي من الرجال لإلحاق الهزيمة بالمسلحين. وسبق أن رفض المالكي فرصة لتغيير هذا الوضع.
وعصر يوم الثامن من حزيران صعد تنظيم داعش. كانت أكثر من 100 عربة تقلّ ما لا يقل عن 400 مقاتل قد عبرت إلى الموصل من سوريا منذ بداية المعركة. وقالت الشرطة والجيش إن الخلايا النائمة في المدينة نشطت وهبّت لمساعدة المهاجمين.
وقصف المهاجمون مركزا للشرطة في حي العربي وهاجموا المنطقة المحيطة بفندق الموصل المهجور على الضفة الغربية لنهر دجلة الذي تحول إلى موقع قتالي لثلاثين رجلاً من وحدة خاصة من قوات الشرطة.
وقصف الغراوي ورجاله من الشرطة الاتحادية المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش بالمدفعية. وقال الغراوي إن "معنويات الموصل ارتفعت" لبرهة من الوقت.
وخلال ساعات سادت الفوضى قيادة الغراوي. وتقول عدة مصادر عسكرية إن غيدان وقنبر عزلا قائد فرقة بعد أن رفض إرسال رجال للدفاع عن فندق الموصل. ومن الناحية النظرية كان تحت إمرة الضابط المعزول 6000 رجل وكان قائده المباشر هو الغراوي. ويصف الفريق أول زيباري هذا الأمر بخطأ آخر كبير. ويقول "في حالة الأزمة لا يمكنك إبدال القائد."
نقطة التحوّل
بحلول التاسع من حزيران كان العقيد العبيدي من الكتيبة الرابعة و40 من رجاله من بين آخر رجال الشرطة المحلية الذين يقاتلون لصد المسلحين في غرب الموصل. أما الباقون فكانوا إما انضموا للمسلحين أو هربوا من الخدمة.
وقبيل الساعة الرابعة والنصف عصرا اتجهت شاحنة صهريج عسكرية لنقل المياه صوب فندق الموصل حيث كان العبيدي ورجاله يرابطون. وأطلقت الشرطة النار على الشاحنة التي انفجرت وتحولت إلى كتلة هائلة من النار والشظايا.
وقال العبيدي الذي أصيب بجرح في ساقه من جراء الانفجار "لم أشعر بشيء. فقد هز الصوت الموصل كلها لكني لم أسمع شيئا."
وتوعد العبيدي بمواصلة القتال وهو يلوّح بمسدسه. ونقله رجال الشرطة إلى زورق لعبور النهر إلى منطقة آمنة. وشهد ضباط عسكريون ومسؤولون محليون بل ومسؤولون أميركيون أدلوا بشهادتهم في ما بعد أمام الكونغرس أن هجوم الفندق هو ما أدى لانكسار الجيش والشرطة في الموصل. وبعد ذلك ذاب الخط الدفاعي في غرب المدينة فلم يعد له وجود.
وبعد حوالي ثلاث ساعات ومع انتشار التقارير عن قيام الشرطة الاتحادية بحرق معسكراتها والتخلص من الزي العسكري اجتمع محافظ نينوى ومستشاره مع قنبر وغيدان في قيادة العمليات قرب المطار.
وكان المستشار خالد العبيدي نفسه ضابطا متقاعدا وعضوا في البرلمان انتخب حديثا. (ولا تربط المستشار صلة قرابة بالعقيد العبيدي). وحث القادة العسكريين على الهجوم بالفرقة الثانية التي ظلت ساكنة نسبيا على الجانب الآخر من النهر في شرق الموصل.
وقال قنبر إن لديهم خطة. وحث مستشار النجيفي الغراوي على الهجوم. وقال الغراوي إنه لا يمكنه المجازفة بنقل الجنود ورجال الشرطة الاتحادية الذين تبقوا معه. وقال المستشار "يمكننا أن نأتي لهم بالقوة."
وقاطعه قنبر قائلا إن على المحافظ ومستشاره أن يؤديا ما عليهما من واجب وأضاف "ونحن سنؤدي واجبنا." وغادر المحافظ ومستشاره القاعدة الساعة 8:25 مساء غير واثقين من خطة العسكريين. وقبيل الساعة التاسعة والنصف مساء أبلغ قنبر وغيدان الغراوي بأنهما سينسحبان إلى الجانب الآخر من النهر. وقال الغراوي "قالا مع السلامة فحسب. لم يقدما لي أية معلومات أو أي سبب."
ويقول الغراوي وضباط آخرون إنهما "قنبروغيدان" أخذا من قوات الغراوي 46 رجلا و14 شاحنة بيك أب وعربة همفي أي معظم ما لدى وحدته الأمنية. وتقول روايات عدة إن الضابطين صاحبي الرتبة الرفيعة نقلا قيادة المدينة إلى قاعدة على الجانب الشرقي من المدينة.
وقال الغراوي إن قافلة غيدان وقنبر المتقهقرة خلقت الانطباع بأن قوات الجيش العراقي تهجر الميدان. وأضاف "هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير. هذا هو أكبر خطأ."
وقال المحافظ النجيفي لرويترز إن الجنود افترضوا أن قادتهم هربوا وخلال ساعتين كان أغلب رجال الفرقة الثانية قد هربوا من الخدمة في شرق المدينة.
وظل الغراوي و26 من رجاله مختبئين في قاعدة عملياتهم في الغرب التي اجتاحها المقاتلون المهاجمون. ويقول الغراوي إن غيدان اتصل به في تلك الليلة وأكد له أن الجيش يسيطر على شرق الموصل.
ويقول الفريق أول زيباري رئيس هيئة أركان القوات المسلحة في بغداد إن غيدان وقنبر غادرا الموصل خلال الليل ووصلا إلى كردستان في العاشر من حزيران.
ويتساءل زيباري "طبعا بمجرد أن يترك القائد الجنود ويرحل فلماذا تريد أن تحارب؟ القائد الكبير هو العقل المحرك للعملية. ما أن يهرب حتى يصاب الجسد كله بالشلل."
ويقول زيباري إنه لا يعرف مَن أصدر الأمر بالرحيل. وقال لرويترز إن غيدان وقنبر يتصرفان دون علم وزارة الدفاع ويرفعان تقاريرهما مباشرة إلى المالكي.
وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي اتصل زيباري بالغراوي وحثه على مغادرة مركز قيادة العمليات. ويتذكر الرجلان قول زيباري "ستقتل. أرجوك انسحب." ورفض الغراوي وأصرّ على أنه يحتاج لموافقة المكتب العسكري التابع للمالكي لكي يرحل.
وعقب ذلك قرر الغراوي أن يقاتل للوصول عبر جسر إلى شرق الموصل. واتصل بغيدان لإبلاغه بذلك. وقال له "سوف أقتل. أنا محاصر من جميع الجهات. انقل تحياتي لرئيس الوزراء وقل له إنني فعلت كل ما في وسعي."
وانحشر هو ورجاله في خمس عربات واتجه صوب النهر. وعلى الضفة الشرقية أشعلت النار في العربات الخمس. وظل هو ورجاله يتفادون طلقات الرصاص والحجارة. ولقي ثلاثة من الرجال مصرعهم بالرصاص. وقال الغراوي إن المسألة أصبحت أن يحاول كل واحد النفاذ بجلده.
وفي الشرق قال الغراوي إن ثلاثة من رجاله استولوا على عربة مدرعة كانت إطاراتها فارغة من الهواء واتجهوا بها شمالا بحثا عن الأمان.
* العواقب
بحلول آب كان الغراوي قد عاد إلى مدينته في جنوب العراق ليعتني بأولاده غير واثق من خطوته التالية. وفي يوم من الأيام تلقى مكالمة من صديق بوزارة الدفاع تبين منه أنه رهن التحقيق لهروبه من الخدمة في الموصل.
وفي الوقت نفسه رقّى المالكي قنبر وسعى لحماية غيدان. وبعد استقالة رئيس الوزراء في 15 آب أرغم الرجلان أيضا على التقاعد. وكان ذلك بمثابة محاولة من حيدر العبادي رئيس الوزراء الجديد للبدء من جديد والسعي لإعادة بناء القوات العراقية.
وأغلق العبادي المكتب الذي اعتاد المالكي أن يوجه منه القادة وفي هدوء أحال الضباط الذين كانوا يعتبرون موالين لسلفه إلى التقاعد. أما تطهير المؤسسات الأمنية من الطائفية وسبل التحايل لجمع المال والمناورات السياسية فسيستغرق سنوات.
والآن على الغراوي أن يتحمل المسؤولية عن سقوط الموصل. ويرى زيباري أن في ذلك ظلم. يقول زيباري "الغراوي كان ضابطا يؤدي عمله لكن حظه تعثر مثل كثيرين غيره من الضباط. كلنا علينا أن نتحمل بعض المسؤولية. كل واحد منا."
وقبل أسبوعين في بغداد قال الغراوي بذقن غير حليق وصوت أجش إنه يقبل مصيره أياً كان. وأضاف "ربما يصدر عفو عني وربما أُسجن وربما أُشنق”.