تفاصيل الخبر
هانس ليتين يتحدى أدولف هتلر على خشبة مسرح لندنية
2015-03-24
هالة صلاح الدين
تحدّى هتلر علانية وخسر المعركة، وأطلق عليه الصحفيون لقب "سجين هتلر الشخصي"؛ هو المحامي الألماني هانس ليتين الذي استدعى هتلر للمثول أمام المحكمة عام 1931، أثناء محاكمة أربعة قتلة من "جنود العاصفة"، وهو اسم أطلق على قوّات الانقضاض النازيّة المعروفة بقسوتها المميتة، فلم يجد النازي مفرّا من الانصياع تحت الضغط الإعلامي، إلا أنه لم ينس هذا المحامي الجسور الذي أقدم على ما لم يجرؤ عليه أحد.
فرض المحامي الألماني هانس ليتين على هتلر الشهادة في قضية متعلقة بـ"جنود العاصفة"، فقاطع حديثه، صححه، أحرجه، سخر من منطقه، رماه بالحجة في مقابل الحجة، بل وبأذكى منها، نازعا عنه لباس الهيمنة والقداسة. لم يكن وحده الممتعض، فالنازيون المتلهفون على السلطة آنذاك لم يتحملوا تعرض رمزهم القاهر إلى استجواب دقيق لا يخلو من الاتهامات.
هل كان المحامي ذو الثالثة والعشرين يترقب دفع ثمن بطولته؟ ما وعى وقتذاك مدى جسارته، بيد أنه توقع بالقطع انتقاما. آمن بما فعله إيمانا غير منقوص، فهو لم يسع إلا إلى الحقيقة، ولكن جمهورية فايمار (1919-1933) حكمتها قواعد غير قواعد النازي، والقائد لم ينس قط ما حاق به من إهانة.
مضى عامان بالضبط ثم ردّ له الصاع صاعين، بعد أن جلس "ذو الشارب القبيح" على عرش برلين؛ المحامي من أصول مسيحية، غير أنه اعتنق اليهودية، وقد استغل هتلر عقيدته ليشوّه سمعته وينال من حريته تحت سمع الهيئات الإعلامية والقضائية وبصرها. وما المانع وقد وأدوا آلافا غيره بدعوى التفوّق العرقي.
في إحدى ليالي عام 1933 يندلع على مسرح ثييتر رويال هايماركت حريق بمبنى الرايخستاج، ومعه حريق مماثل في قلب أمّ؛ المحامي هو المستهدف السياسي الأول في تلك الهجمة البوليسية، يقبل زوار الجستابو في مسرحية "معتقل في منتصف الليل" ليشرّدوا المحامي بين معسكرات الاعتقال والسجون، ومعه صحفيان "اختفيا" تحت وطأة مستشار الرايخ، من بينهم الشاعر الفوضوي إريخ موزام.
لم تتسلل الهزيمة إلى قلب أمه لحظة، والنص بالكامل تحكيه من وجهة نظرها. تخوض الحرب وحدها، فالأب رواقي المسلك شبه غائب، يصارحها بأنه يعرف ابنه صبيا صغيرا غير أنه خسره حين شبّ عن الطوق. احتوت الأم الصبي بحنانها، وعندما كبر في السن، احترمت طموح الرجل.
تطالب النازيين بإطلاق سراحه، تتردد بلا انقطاع إلى مكاتب ذوي الجزم العسكرية الثقيلة، تطارد الجستابو وغريزة الأم تحثها دون اكتراث بالخطر المستفحل، تنتظر ساعات وساعات، قائلة "لم أكن أعلم أن الانتظار في حدّ ذاته يحدّد قيمة المرء". تقوم بالدور البريطانية القديرة بينيلوبي ويلتون، وهي من قامت بدور إيسوبل كرولي في مسلسل "داونتون آبي" الشهير.
تنتقد في بيروقراطية الضباط هوس النازيين بالإجراءات، ملء البيانات، مراجعة كل كبيرة وصغيرة "رغم أنهم سفاكون للدماء". لعب البريطاني جون لايت دور الضابط كونراد الذي ظهر دمثا في الظاهر، ولكنه كان منتقما لا يلين، يقبع خلف بدلته العسكرية، "وهل كنت تعتقدين أنه سيفلت بفعلته؟".
ظهر أداء لايت أبدع ما في العرض على الإطلاق لخلوّه من الافتعال وما أضفاه من جوّ خانق متصلب، وكأن نازيا انبعث من قبور الحرب العالمية الثانية وتجسّد أمامنا تجسّدا. تلتفت الأمّ إلينا أثناء حوارها معه، "من السهل رؤية التعصب في الآخرين، ومن المستحيل رؤيته في نفسك".
يرفض الاستبداد التماس الأم إرمجارد، فلا يغادر المحامي محبسه؛ يتعرّض لتعذيب وحشي، فتنهار طبيعته الحديدية، وينحط عقله وجسده إلى درجة أنه ينتحر شنقا بمدينة داكاو الألمانية عام 1937. يصك آذننا صوت السياط تنهال على أجساد الضحايا، وتتخلل طلقات الرصاص نغمات البيانو لتذكرنا بأن النازيين كانوا محبين للآداب والفنون.
كان الكاتب الأميركي إيلي ويزل الناجي من معسكرات الاعتقال قد كتب في جريدة "لوموند": كيف بالإمكان وصف عملية الفرز عند الوصول إلى أوش?يتس، عزل أطفال يرون أبا أو أما، يبتعدون عنهما دون أن تقع عليهما أعينهم قط مرة أخرى؟ كيف التعبير عن أسى أخرس انتاب فتاة صغيرة وطوابير لا نهائية من نساء وأطفال وأحبار مندفعين عبر ريف بولندا أو أوكرانيا ليلقوا حتفهم؟ لا، لا يمكنني وصفهم.
ولأني كاتب ومدرّس لا أستوعب كيف يمكن لأوفر الأمم الأوروبية ثقافة أن ترتكب تلك الفعلة. فقد كان هؤلاء الرجال -القتلة بالبنادق الرشاشة في أوكرانيا- خريجو جامعات، مضوا بعدها إلى بيوتهم ليطالعوا قصيدة، ماذا جرى إذن؟