تفاصيل الخبر
مبارك الفرعون الأخير... كيف تصرف مبارك في اليوم التالي للتنحي؟
2014-07-07
الحلقة الأولى
صباح السبت 12 فبراير 2011، استيقظ محمد حسني مبارك في الخامسة صباحا، كما اعتاد طوال أكثر من خمسين عاما، في شرم الشيخ حيث اعتاد قضاء الإجازات، وهو يشعر بمشاعر متضاربة، ولمح حالة من الترقب والقلق بين أفراد أسرته، الذين ظلوا طوال الليل يطمئنون عليه، خوفا من أن يكون أصيب بأزمة، من جراء صدمة التنحي، وقبل أن ينتبه طلب أن يجري اتصالات بنائبه عمر سليمان، والمجلس العسكري، ليطمئن على سير الأمور في البلد التي كان يحكمها طوال 30 عاما، وحتى أمس كان صاحب القرار الأول والوحيد، كان يتعامل كرئيس سابق ماتزال معه حراسته وسكرتاريته، وإن كان شعر ببعض الغصة، من الأفراح التي شهدها في الشوارع وأن المتظاهرين سهروا يرقصون في التحرير والشوارع حتى الصباح، هو اليوم الأول خارج السلطة، وإن كان لم يشعر بأن السلطة غادرته، وشعر ببعض الراحة عندما علم أن المتظاهرين بدأوا في الانصراف لمنازلهم بعد 15 يوما قضوها في الميادين يرفضون الانصراف قبل أن يترك الحكم، وانتبه إلى أنه لم يعد رئيسا، ولم تعد لديه سلطات، وعليه أن ينتظر الاتصالات، ولا يطلبها، ثلاثون عاما، وهذا هو اليوم الأول خارج الرئاسة، وبعيدا عن أي مؤثرات في القرار، ربما تذكر وهو يستعرض وجوه من حوله، تلك النظرات في عيون جيهان السادات، وأبناء الرئيس الراحل، قبل ثلاثين عاما، عندما وجد نفسه فجأة أمام شخصية أخرى غير تلك التي كانت زوجة الرئيس، واكتشف مبارك أن للسلطة بريقها، الذي لا يخفى على أحد، حتى مع وجود السكرتارية وكونه ما يزال موجودا إلا أن شيئا ما في الهواء تغير.
بدا حسني مبارك مندهشا من حجم الفرح برحيله عن الحكم، وهو الذي كان طوال الوقت يقول لمن حوله إنه يريد "أن يرتاح"، وكان من حوله يرفضون، ويعربون عن أن البلد سوف تتوتر، مافيش حد ينفع البلد مشاكلها كتير، لم يجر مبارك أي اتصالات، وقضى يومه الأول خارج السلطة، يسترجع التواريخ والمشاهد، التي تمر أمام عينيه، كأنها حدثت بالأمس، ويصبر نفسه: تلاتين سنة كفاية، كان ينظر حوله لجمال وعلاء والأطباء ويسرح في عالم آخر، ويطمئن الأطباء: أنا كويس.
شعر بصدمة من فرحة المصريين، لتنحيه، بعد كل هذه السنوات التي خدم فيها وطنه، ويبدو قلقا من أن المستقبل للبلد الذي ساهم في بنائه، يبدو غامضا، هو يرى أن جماعة الإخوان كانت تستعد للقفز على السلطة في البلد، وقال ذلك بوضوح للرئيس الأمريكي أوباما، وحذره من أن البديل لنظامه، هو حكم الجماعات المتطرفة، التي لا يهمها الفوضى.
كان يعرف أن الإخوان على اتصال دائم بالأمريكان، وأنهم لم يتوقفوا عن إرسال رسائل الطمأنة للأمريكان بأنهم سوف يقيمون حكما ديمقراطيا، وأنهم لن يستأثروا بالحكم، كانت التقارير التي تلقاها طوال الأيام الأخيرة، تكشف عن أن جماعة الإخوان تستعد للقفز على المظاهرات، وأن كثيرين من المتظاهرين لا يعرفون الحقيقة، وبدا مندهشا، من تطور الأحداث في اليوم التالي لخطابه الذي ألقاه أول فبراير، وتحدث فيه بشكل عاطفي، وأبدى استعدادا للتفهم، وتعهد بألا يترشح هو أو أي من عائلته، ولا يعرف من أين أتى البلطجية والقتلة للميدان وأشعلوا الموضوع، عض مبارك على شفته وهو يتذكر، وينفخ، الإخوان مش هيسيبوا البلد، وعيونهم على السلطة، وهيضحكوا على الكل، لقد استمع من نائبه عمر سليمان لتفاصيل اللقاءات التي أجراها مع القوى السياسية والشباب، وفهم أن الإخوان لن يتركوها هذه المرة.
صباح الثلاثاء 12 أبريل 2011 كان محمد حسني مبارك في الثالثة والثمانين من عمره ينتظر في غرفته بفندق هلنان مارينا شرم الشيخ، ويحاول إخفاء شعوره بالغضب والقلق.. صحا في الخامسة صباحا، كما اعتاد طوال سنوات حكمه، يوم 12 أبريل وتبادل أحاديث مختلفة مع ابنيه علاء وجمال وزوجته التي كانت السيدة الأولى، كان الوجوم والقلق باديا على وجوه الحضور، لأنهم ينتظرون بعد ساعات قدوم المحقق من النيابة العامة، للتحقيق مع حسني مبارك وولديه، في اتهامات بقتل المتظاهرين واتهامات أخرى بالاعتداء على المال العام.
كان مبارك تناول إفطاره قبلها، وجلس ينتظر المحقق، وهو يشعر ببعض القلق، لكنه رمى من وراء ظهره، وابتسم وهو يسترجع تفاصيل السنوات البعيدة التي استمر فيها يعمل بلا توقف، ولم يجد لديه من الوقت أو الفراغ ما يجعله يتذكر كل هذه التفاصيل، نظر إلى ابنيه علاء وجمال مبتسما، سألاه عن صحته فقال بصوت واهن "كويس الحمد لله"، كانت الأنباء كثيرة عن سوء صحة مبارك الرئيس السابق، الذي كان حتى ثلاثة أشهر قد تنحي مجبرا عن السلطة، بعد 18 يوما راوغ فيها وحاول الاستمرار في الرئاسة وراهن في البداية كما راهن دائما على أنها "أزمة وتعدي"، وقد اعتاد أن يواجه الأزمات الكبرى بثبات ومن دون أن تهتز أعصابه، أو يشعر بالقلق، يشعر قليلا بالفخر لكونه كان طيارا وكان يتعرض للكثير من المواقف التي تستدعي التدخل وكان عليه أن يظل ممسكا بزمام الأمور، لكنه هذه المرة لم يستطع الإبقاء على وضع الطيران، وأفلتت الأمور من يده، وشعر أن عليه أن يتخذ قراره بالهبوط الاضطراري.
بالطبع هو اليوم أفضل كثيرا من الأيام التالية للتنحي، فقد كان يحلم أنه تم القبض عليه من جماهير اقتحمت عليه غرفته، وانتزعته هو وأبناؤه وتم إعدامه من دون محاكمة، لكنه راهن دائما على أنه طالما الأمور في يد الجيش وأن القوات تسيطر، فإن غضب الشارع سوف يهدأ وتعود الأمور إلى نصابها.
ابتسم وهو يشعر براحة ما أنه على قيد الحياة، وأنه لم يتعرض للبهدلة، مثلما جرى مع غيره من الزعماء والرؤساء الذين عاصر نهاياتهم، الموضوع في مصر مختلف، مبارك بعد 37 عاما في قمة السلطة، منها 30 عاما يحكم منفردا، ما زال يرى أنه يفهم الشعب المصري، ويعرف حدوده، بل إنه خلال اشتعال المظاهرات، قال للرئيس الأمريكي باراك أوباما في اتصالهما الأخير عندما طالبه بترتيب الخروج من السلطة ونقلها بشكل سلمي قبل أن تتفاقم الأمور، قال لأوباما "أنت لا تعرف شعبي أنت لا تعرف المصريين.. أنا أعرفهم" وكرر مبارك ذلك كثيرا، وقال دعني أتعامل وأحل المشكلة كما اعتدت دائما، وبعدها سترى، فهل كان مبارك يعرف فعلا الشعب المصري، ويعرف مفاتيحه، وهل بالفعل كان يفهم طبيعته وما يريده، وهل كان الشعب المصري يعرف مبارك ويفهم كيف يدير البلاد؟.
لقد مرت 60 يوما بالضبط على خروجه من القصر الرئاسي، الذي قضى فيه ثلاثين عاما إلا قليلا، وبعد أن أفاق من صدمة الإطاحة، وتكيف مع كونه لم يعد رئيسا، ولم يعد يملك سلطة على أي قرار، وربما حتى على القصر الذي يقيم فيه، وجد الوقت لكي يسترجع الكثير من تفاصيل حياته، وأن ينظر خلفه ليعرف ما إذا كان يمكنه تغيير المسارات، وهل كان يمكن لمبارك أن يغير مصيره أو يتخذ قرارا ييسر به مصيره ويخرج من دون أن يتعرض للتحقيقات أو يتهم اتهامات يراها ظالمة بقتل المواطنين أثناء المظاهرات ضده أو سرقة المال العام، هو يعرف منذ بداياته، أن الصحافة والإعلام تبالغ في الأرقام والاتهامات، وهناك الكثير من الشائعات عن أمواله المهربة، وملياراته التي هربها إلى بنوك سويسرا وأوروبا، وهو كان يعرف أنه سوف يبقى ويعيش ويموت في مصر، وما الداعي لتهريب أموال بينما هو سيبقى في مصر؟.
مبارك قال لسوزان ثابت زوجته إنه كان محقا عندما رفض كل العروض ليغادر البلاد، وقد تلقى بالفعل عروضا من السعودية ودول خليجية لينتقل وعائلته هناك، مثل سابقه زين العابدين بن علي الرئيس التونسي الذي هرب من تونس إلى السعودية في أعقاب المظاهرات والثورة عليه، قال مبارك مبتسما "مش ممكن أهرب وأسيب مصر"، مهما كان، الواحد يعيش مطارد، أنا ما اتعودتش أهرب أبدا من أي معركة، هاجي بعد العمر دا وأهرب وأسيب بلدي وأعيش لاجئ.
بالطبع جاء على ذهن مبارك مصائر رؤساء تم قتلهم أو إعدامهم من قبل شعوبهم، وما زال يتذكر نيقولاي شاوشيسكو الذي أعدمه الجيش أمام التليفزيون هو وزوجته بعد محاكمة استمرت نصف ساعة، في ديسمبر 1989، وصدام حسين الذي عرض مشهد إعدامه بالمشنقة في 30 ديسمبر 2006 صباح عيد الأضحى، ويومها أبلغ مبارك الأمريكان غضبه وغضب العرب والمسلمين، لكنهم لم يسمعوا، لقد شعر مبارك ببعض القشعريرة وهو يتذكر مشهد إعدام صدام، ويتذكر مشهد المشير محمد حسين طنطاوي الذي فوضه هو والمجلس العسكري لإدارة شؤون البلاد، ومازال مبارك يرى أن المصريين مختلفون، وإن كان هناك بالفعل من يطالب بإعدامه.
فكر محمد حسني مبارك في كل هذا وهو ينتظر حضور المحقق من النيابة، في التاسعة والنصف، بقرار من النائب العام عبدالمجيد محمود بالتحقيق مع مبارك وولديه جمال وعلاء، نظر إلى علاء وقال له إنت اتاخدت في الرجلين يا علاء، ابتسم علاء: كلنا فداك يا ريس، ولم ينس أن ينظر لجمال ويبتسم: عامل إيه يا جمال؟، يبتسم جمال: الحمد لله يا ريس، كان جمال يشعر ببعض الحرج منذ الأيام الأخيرة للأب في الحكم، يشعر ببعض الذنب لكونه المسؤول عما جرى، وقد واجهه علاء قبل ساعات من إعلان تنحيه وقال له: إنت السبب في كل البهدلة دي.
كانت سوزان ثابت تنظر لهم وتحاول أن تبدو متماسكة، بينما الشحوب باد على وجهها، وهو شحوب لم يغادرها منذ الساعات الأولى للسبت التالي لجمعة الغضب، حيث كانت تشعر أنها الأيام أو الساعات الأخيرة في القصر، بعد سنوات كانت فيها فاعلا وآمرة، لكنها اليوم تنتظر مصيرها من آخرين، كان بعضهم لا يحلم بلقائها.
مبارك وهو في الثالثة والثمانين، من عمره، ما يزال حريصا على أن يبدو متماسكا وقويا في مواجهة ما سيأتي وقد تم إبلاغه من قبل ضابط حراسة كبير بأن هناك محققا من النيابة سوف يأتي لأخذ أقواله في قتل المتظاهرين، وإنه لم يعد هناك مجال للتأجيل، وكان محاميه فريد الديب قد أعلن أن مبارك مريض بالسرطان وأن صحته في خطر ويحملهم المسؤولية عن حياته، وأي خطر يهددها، لكن الأطباء بعد الكشف عليه، قالوا إن صحته جيدة، باستثناء بعض المشكلات في القلب، وكان هذا قبل يومين، وبعد أيام كان من حوله مترددون في إبلاغه بالأمر، وعندما أبلغه الضابط رد: خليهم يعملوا شغلهم، "القضاء هو اللي هيبين الحقيقة وأنا مستعد لأي محاكمة".
كان المحقق المنتدب من النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود للتحقيق مع مبارك وولديه في البلاغات المقدمة ضدهم، برقم 1 لسنة 2011، سبقها طلب النيابة من رئيس الطب الشرعي لتحديد ما إذا كانت الحالة الصحية لمبارك تسمح بحضوره إلى مقر نيابة الطور، وبعدها انتظر المحقق المستشار مصطفى 6 ساعات، وافتتح محضرًا آخر أثبت فيه تقرير الطب الشرعي من الدكتور السباعي أحمد السباعي رئيس قطاع الطب الشرعي وكبير الأطباء الشرعيين الذي ترأس لجنة انتقلت إلى مقر سكن الرئيس السابق، وتبين لها وجود الرئيس في فراشه ووجود ابنيه وزوجته وطبيبين لمبارك، قالا إن مبارك يتناول الأسبرين واللازكس فقط كعلاج، وأنه مصاب بارتجاف أذيني بعضلة القلب، استلزم إعطاءه علاجا أدى لهبوط في الضغط.
كما أثبت الطبيب الشرعي وجود أثر التئام بأعلى منتصف جدار البطن، وآخر أسفلها مائل الوضع طول كل منهما حوالي 25 سم، وهما من آثار العملية التي أجريت له عام 2008، وأعلنت الرئاسة أنها لغزالة المرارة، لكن تسرب بعد ذلك أن العملية كانت عاجلة لإزالة ورم بالجهاز الهضمي، وتم التكتم عليها، وهي الفترة التي شهدت أنباء عن أن مبارك سوف يجري تغييرات في النظام بعد عودته، وتردد أنه سوف يعين نائبا له قيل إنه اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات، كما صاحبت هذه الأنباء أخرى عن تغييرات حكومية يتم بمقتضاها تعيين الفريق أحمد شفيق وزير الطيران المدني رئيسا للوزراء، لكن بعد عودة مبارك لم يحدث أي قرار، وبعد خروجه من الحكم تم إعادة هذا الأمر مصحوبا بأن سوزان ثابت زوجة مبارك هي التي رفضت القرار، ومعها بالطبع كان جمال مبارك، الذي كان وقتها في صدارة المشهد وبانتظار اللحظة المناسبة ليتولى الحكم وسط صمت ورفض مكتوم ورغبة من أجهزة الدولة في استمرار مبارك إلي النفس الأخير ويومها يمكن أن تتشكل الأحوال كما ينبغي.
لقد كان أثر العملية الجراحية علي بطن مبارك، بهذا الحجم أحد الأدلة على طريقة الحكم طوال 30 عاما، كان مبارك يميل للكتمان، وهي طبيعة لازمته طوال حياته، وفترة حكمه، في نظام استمر مبارك على رأسه ثلاثين عاما، والأهم أنه كان يستعد بعد ذلك للإجابة على أسئلة المحقق، مستسلما ومراوغا، في إحدى حالات مراوغاته التي تعلمها خلال توليه الرئاسة، وهي مراوغات لم يكن يقبلها من أي ممن عملوا معه، سواء في مسيرته المهنية في الجيش، أو في الرئاسة عندما كان صاحب القرار الأول والنهائي.
بالطبع وجد مبارك لديه من الوقت قليلا ليستعيد حياته، ويتذكر المواقف التي لا تنسى، ومبارك بالرغم من أنه قال في خطابه قبل الأخير "سيحكم التاريخ علي وعلى غيري بما لي وما علي" فإن محمد حسني مبارك، لم يكن قارئا للتاريخ، ولم يحبه، ولم يكن من الحكام الذين يسعون لاحتلال مساحات من التاريخ، وبالطبع فلم يكن يعرف أنه لا هو ولا غيره يستفيدون من دروس التاريخ، لأن الدروس عادة تأتي بعد فوات الأوان، وبعد انتهاء الفرص الممنوحة.
هناك لحظات لابد وأن مبارك استعادها، في أوقات انتظاره الطويلة، ما بعد الخروج من القصر، منها لحظة وقوفه يوم 14 أكتوبر 1981، أمام مجلس الشعب قبل ثلاثين عاما، ليقسم "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصا على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه".. بعد 8 أيام فقط على اغتيال الرئيس السادات، وخلالها تولى صوفي أبو طالب رئاسة الجمهورية بوصفه رئيس مجلس الشعب، طبقا لدستور 1971، ثم يتذكر بيان التنحي الذي ألقاه نائبه عمر سليمان بدون قسم، أعلن الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصبه، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.
بالطبع فقد استعاد مبارك يوم 15 أبريل 1975، عندما استدعاه الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، ليبلغه أنه اختاره نائبا له، ويبدو أن شهر أبريل كان شهرا ذا تواريخ مع مبارك، فقد رفع علم مصر على سيناء المحررة في 25 أبريل 1982، وهو اليوم الذي لم يشهده الرئيس السادات، وكان ينتظره ليعيد علاقاته مع الداخل والخارج، لكن كل هذه التواريخ التي استعادها مبارك محتها لحظات صعبة مرت كالدهور، أهمها على الإطلاق يوم 6 أبريل 2008، عندما حطم متظاهرو المحلة الكبرى صورته وداسوها بالأقدام بعد أن أسقطوها، ضمن أولى إشارات لم ينتبه لها، وأبدى غضبه لوزير الداخلية حبيب العادلي من أن يتم السماح بتحطيم صورته وضربها وإهانتها، وفي اليوم التالي اتجهت المئات من سيارات الأمن المركزي للسيطرة على المحلة الغاضبة، بالمظاهرات، على غير توقع، حيث كانت وزارة الداخلية وحبيب العادلي تستعد لمواجهة مظاهرات 6 أبريل في القاهرة، وخلت تقارير الأمن من أي احتمالات للمظاهرات في المحلة الكبرى، التي فاجأت العادلي ومبارك، لكنها لم تعن لديهم جرس إنذار واضح بأن النظام أكله النمل، بعد أربع سنوات من تشكل حركة كفاية التي أعلنت رفضها التمديد لمبارك، أو توريث الحكم لجمال.
مبارك لم يربط بين أحداث تصادف أن جمعها شهر أبريل، وهو نفسه يخضع لأول تحقيق في اتهامه بقتل المتظاهرين أمام النيابة، ناهيك عن اتهامات بالفساد ونهب المال العام، وهو الاتهام الذي يبدو أنه أثار غضب مبارك أكثر من اتهامه بقتل المتظاهرين، ودفعه لأن يستبق الأمور، ويسجل صوتيا، ثم يرسله لقناة العربية التي أذاعته يوم 10 أبريل 2011، بعد 60 يوما على التنحي.
ويبدو أن حسني مبارك لم يتوقع أن يخضع لتحقيقات ولهذا طلب بعد التنحي الانتقال إلى شرم الشيخ ليعيش هناك ربما تصور أن تنحيه سيكون كافيا لامتصاص الغضب الشعبي، لكن الشارع لم يهدأ ونظم المتظاهرون مظاهرات يطالبون فيها بمحاكمته، وانتشرت في الصحف والإعلام تقارير عن مصادر أجنبية ومحلية، تعلن عن امتلاك مبارك لثروة تم تهريبها للخارج ووضع بعضها في بنوك سويسرا أو لندن، التقديرات بين 40 و 70 مليار دولار، وهي أرقام نشرتها تقارير بصحف كبرى كانت أبرزها الجارديان البريطانية، وسارت وراءها الصحافة والإعلام في مصر، وتصور من نشروا أن صحيفة كبرى لا يمكن أن تنشر بلا توثيق، لكن أمور الثروة والقتل أصبحت ضمن التحقيقات، خاصة أن كاتبا كبيرا مثل الاستاذ محمد حسنين هيكل نشر الرقم وتم استدعاؤه لتقديم ما لديه في النيابة، وكل هذا جعل قضية الثروة مطروحة، وتزامن ذلك مع تقارير وأخبار عن قصور في شرم الشيخ، وصفقات أبرمها علاء وجمال مبارك.
كان مبارك يصر على أنه لم يصدر أمرا ولو شفهيا أو كتابيا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وأعلن استعداده للخضوع لأي تحقيق، لكنه غضب بشدة عندما أبلغه محاموه وأبناؤه بأن التحقيقات تشمل اتهامات تتعلق بالمال العام، وحسابات سرية وتهريب أموال وغياب بعض المنح التي قدمتها دول خليجية مثل السعودية والإمارات لمصر، وغضب مبارك أكثر من الاتهامات بالفساد اكثر من الاتهامات بقتل المتظاهرين، بتسجيل كلمة صوتية أرسلها إلى قناة العربية لتذاع عليها يوم 10 أبريل، وجهها إلى الشعب المصري، أعرب فيها عن تألمه هو وأسرته من حملات وصفها بالباطلة وتستهدف الإساءة لسمعته والطعن في نزاهته وتاريخه العسكري، والسياسي الذي قال إنه اجتهد فيه من، ونفى أن تكون لديه أية حسابات خاصة خارج البلاد، وأعلن: "بناء على ما تقدمت به من إقرار لذمتي المالية النهائي والبيان الذي أصدرته مؤكدا فيه عدم امتلاكي أنا وزوجتي وأبنائي علاء وجمال، لأي حسابات أو أرصدة أو عقارات خارج مصر، أو أي عقارات أو أي أصول عقارية بشكل مباشر أو غير مباشر سواء كانت تجارية أو شخصية منذ اشتغاله بالعمل العام عسكريا وسياسيا وحتى تاريخه حتى يتسنى للجميع التأكد من كذب كل الادعاءات التي تناولتها وسائل الإعلام والصحف المحلية والأجنبية حول أصول عقارية ضخمة ومزعومة في الخارج أمتلكها أنا وأسرتي. نافيا تورطه في الفساد المالي أو استغلال النفوذ".
ويبدو أن مبارك سجل البيان بناء على اقتراحات من أولاده ومحاميه، وأطراف أخرى، لكن الرأي العام انشغل عنه، وجاءت ردود الأفعال عليه غاضبة باعتباره متهما يسمح له بالحديث للإعلام الخارجي، ليصدر قرار النائب العام بحبس مبارك، ليكون أول حاكم في تاريخ مصر الحديث يقف أمام محكمة ليحاكم.