تفاصيل الخبر
مبارك الفرعون الأخير.. أحلام السلطة وكوابيس التنحي
2014-07-21
الحلقة الثانية
12 إبريل كان يوما فارقا في حياة الرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك، فهو اليوم الذي سعى لتحاشيه وتأجيله، لكنه وجد نفسه وجها لوجه مع المحقق، وأنه متهم يواجه اتهامات بالقتل والفساد. خضع مبارك لأول تحقيق بشأن اتهامه بقتل المتظاهرين والفساد المالي، وتأكد له بما لا يدع مجالا لأي شك، أنه لم يعد هو نفسه الرئيس الذي كان حتى شهرين صاحب القرار، لكنه كان قد استسلم، وكيف نفسه لأيام طويلة، وأحداث ومواقف، ربما لم يتخيلها. بعد التحقيق معه من النيابة، والتعامل معه بوصفه المتهم محمد حسني السيد مبارك، واتهامه بإصدار أوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وارتكاب جرائم ضارة بالمال العام، كان طوال الوقت ينفي أنه أصدر تعليمات بالقتل، ويستنكر الاتهامات بالفساد، ويعترف بالمظاهرات، وعلمه بها وكونه قد عقد اجتماعات لمجلس الأمن القومي، وأنه تلقى تقارير من وزير الداخلية بعد مظاهرات 25 يناير بأن المظاهرات في جمعة الغضب لن تكون ضخمة، ويعترف بأن التقارير توقعت أنها ستكون أكبر، ومع الاتهامات التي وجهتها له النيابة بالفساد تخلي عنه تماسكه، وشعر ببعض الدوار، وأصيب بأول أزمة قلبية، ليصدر قرار النائب العام في اليوم التالي 13 إبريل بحبس حسني مبارك وولديه علاء وجمال 15 يوما على ذمة التحقيق، ويتم ترحيل علاء وجمال إلى طرة، بينما يتم التفكير في نقل مبارك إلى مستشفى عسكري، بعد أن أعلن محاميه أن حالته مهددة، ولتبدأ دورة أخرى من التواريخ المهمة، لعل أكثرها ذروة درامية.
كان يوم 3 أغسطس 2011، عندما ظهر مبارك لأول مرة في القفص أمام المحكمة، صحيح أنه كان "مغمض"، يحاول أن يبدو مريضا، لكن اللحظة كانت أعلى لحظات ما بعد التنحي، وأول رئيس أو حاكم في تاريخ مصر الحديث يحاكم، نادي القاضي أحمد رفعت عن المتهم "محمد حسني السيد مبارك" ورد مبارك: أفندم.. حاضر، ليبدأ مرحلة جديدة من الجلسات والمحاكمات والأحكام.
والذي لاشك فيه أن حسني مبارك استعاد حياته عدة مرات من بدايتها لنهايتها، وتوقف عند لحظات فرح أو حزن أو تفوق، أو سلطة، وأيضا لحظات النهاية، التي بدا فيها غير قادر على القيادة، وكان الهبوط الاضطراري للفرعون الأخير محمد حسني مبارك، الذي بدا طوال حياته محظوظا بالفرص، يسيطر على حياته، لكنه فقد السيطرة فتداعت حياته وخسر الكثير من المكاسب. خسر صورة الرئيس السابق الذي سلم السلطة، كما أنه ارتكب خلال سنوات حكمه الأخيرة أخطاء أضاعت الفرص التي حصل عليها. كان مبارك حريصا على أن يرد على نداء المحكمة باحترام، ويتعامل كرئيس سابق، كان يعلن دائما أنه يحترم سلطة القضاء، لكنه كان في الواقع يشعر بغصة وبنوع من الظلم، وربما الخيانة، لأنه لم يتصور أن يجد نفسه أمام المحكمة متهما بالقتل والفساد، بينما استجاب لمطالب الجماهير الغاضبة، ويبدو أنه وطن نفسه على التعامل كمواطن، وليس رئيسا، لأنه استرجع غضب الشارع الذي لم يتوقف عن طلب محاكمته طوال الوقت.
وبدا مبارك غاضبا من الاتهامات بالفساد، أكثر من غضبه من اتهامه بقتل المتظاهرين. بدا حريصا على إبراء شرفه العسكري والسياسي، لكنه لم يعترف أبدا بارتكاب أخطاء سياسية تسببت في الكثير من المشكلات، والفقر والظلم.
ونحن هنا في هذه الحلقات الأربعين وربما أكثر، نقدم محاولة لقراءة حياة مبارك، قصة حياته الشخصية والسياسية، ونظامه الذي بدا أنه انتهى بتنحيه، وبجانب مبارك نروي القصة، ومعها قصص لأشخاص عاصروا مبارك وخدموا معه، منافسين له، أو مساعدين، بعضهم حكى بعضا من القصة، والبعض الآخر آثر الصمت، أو صمت بالرحيل. نسعى للتعرف على نظام أمني كان الأقوى، ونظام اجتماعي كان الأضعف، لقد قال مبارك لباراك أوباما في المكالمة الأخيرة بينهما: "أنت لا تعرف الشعب المصري.. أنا أعرفه" فهل كان حسني مبارك يعرف الشعب فعلا، وهل كان يمتلك مفاتيحه ويتحكم فيه، أم أنه أفاق على لحظة اكتشف فيها أنه لا يعرف هذا الشعب، الذي بدا هادئا قانعا، ثم هب غاضبا؟
وفي المقابل، هل فهم الشعب المصري من هو حسني مبارك، وهل استطاع أحد أن يقرأ تفاصيل هذا الرجل الذي حكم ثلاثين عاما، ولم يتذكروا من خطاباته سوى الكلمات التي وردت في الخطابات الأخيرة، عندما حاول استعطاف الشعب، والحصول على فرصة أخيرة، بعد ثلاثين عاما من الفرص.
حاولنا خلال هذه الحلقات أن نبحث عن مفاتيح لبعض ألغاز تركها الرجل، ومفاتيحه، وهل كانت نشأته لها علاقة بخاتمته في السلطة، وكيف تغير بعد السلطة، وتحول ليصبح شخصا آخر؟
لقد بدا مبارك في بدايات حكمه شخصا متواضعا، يتحدث عن الطهارة، والكفن الذي بلاجيوب، ورحل وهناك جيوب كثيرة مفتوحة في البلاد طولا وعرضا، جيوب امتصت مال الشعب وأراضيه، بينما خلت جيوب الملايين من حقهم في التعليم والعلاج والسكن.
أما لماذا مبارك اليوم، والإجابة أن مبارك بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على التنحي، يظل حاضراً لدى قطاع من المواطنين، بعضهم أطلق على نفسه "آسفين ياريس" معتذرين عن الثورة، وهؤلاء يجدون تبريرات لمبارك ويطالبون بتكريمه بدلاً من محاكمته، بل إنهم يرون أن مبارك حافظ على مصر كما تسلمها، وحافظ على استقرارها وسط أنواء ومصادمات، ويتجاهلون الكثير من الفرص التي أضاعها مبارك، بل إنهم ينكرون مع مبارك كونه تورط في الفساد أو ساعد عليه، ومن تأمل هؤلاء الذين اعتادوا أن يحتفلوا بمبارك أو الذين احتفلوا بعيد ميلاده أمام المستشفى، ومن اعتادوا متابعته في المحاكمة، والدعوة للإفراج عنه وتكريمه بدلا من محاكمته، ربما لايعرفون الكثير عما كان يجري، وربما كان بينهم ضحايا له ولنظامه، ولا يمكن اعتبارهم من المستفيدين من مبارك وحكمه، فليس من بينهم قيادات سابقون، ومبارك ليس لديه ما يقدمه لهم غير إشارات من نافذة المستشفى، أو من خلف قضبان القفص.
وهو سؤال يطرح نفسه عن السبب الذي يجعل عدداً من ضحايا الفقر والمرض والفساد، يصرون على الدفاع عن مبارك ونظامه، وبعضهم لا ينكر حجم الفساد والأخطاء، ويطالبون بعدم تجاهل دور مبارك العسكري، ودوره كرئيس حكم في فترة صعبة وحافظ على الاستقرار. منطق هؤلاء يتجاهل كثيراً أن أخطاء مبارك وعدم تفاعله مع أجراس التحذير خلال عشر سنوات، كان عاملاً فيما تعانيه مصر، وأنه كان يمتلك فرصة لنقل مصر إلى الديمقراطية، لو التزم بمواجهة الفساد السياسي والاقتصادي، كما أنه مسؤول عن غياب العدالة واختلال الميزان الاجتماعي، وعدم السعي لخلق حياة سياسية قوية، بما فتح الباب للعشوائيات والفقر الذي ولد التطرف، ويبقى مبارك في الصورة، لدى أنصار له، وأيضاً لدي خصومه ونقاد عصره ومعارضيه، خاصة بعد مقارنة عهده بالتجربة السيئة لحكم الإخوان ومرسي، التي أعادت النظام بشكل أسوأ، حيث أحلت الجماعة مكان الحزب الوطني، وأصرت على أن تحكم منفردة بلا شريك.
وللمفارقة، فإن مبارك عاش وقد تصور البعض أنه لن يستمر بعد تنحيه، ولم تتوقف الشائعات والأنباء عن موته، لدرجة أن موته أصبح نكتة تقول: هو مبارك ماماتش من كم يوم، وبالرغم من قوة الصدمة التي تلقاها، فقد ظل جهازه العصبي قويا وقادرا على تلقي الصدمات، وحتى عندما جلس في القفص أمام القاضي، يحاكم بتهم قتل المتظاهرين، والفساد، فقد ظل لفترة مختبئا خلف النظارة السوداء، مريضا واهنا، لكنه مع الوقت بدأ يتفاعل مع أنصاره ويلوح لهم، كما أنه واصل حضور الجلسات وبدا ملتزما باحترام المحكمة، ومرت الجلسات، وصدر الحكم الأول بالسجن المؤبد عليه وولديه، ووزير داخليته، فضلا على محاكمات في قضايا الفساد بالقصور الرئاسية، وغرامات ضخمة في قطع الاتصالات، وكل هذا لم يبدو أنه أثر فيه، واستمر يستخدم حقوقه، في الاستئناف والنقض، كما أنه عاش ليشهد صعود الإخوان للسلطة، في مجلس الشعب ومجلس الشورى والرئاسة، وكيف أنهم كذبوا على القوى السياسية، واستأثروا بالسطات، وبدا مبارك وكأنه يرى نبوءاته تتحقق، والإخوان يخدعون الجميع، ويسعون لتحطيم مؤسسات القضاء والجيش، وبدت الجماعة في السلطة تكرارا بشكل أسوأ لتجربة الحزب الوطني، ومحمد مرسي يضيف إلى التسلط، الفشل والعجز، ويفشل في أن يصبح رئيسا بعيدا عن مكتب الإرشاد، كل هذا منح مبارك بعض التسرية، لكونه رأي من يقارنون بين حكمه وحكم الجماعة، كما أنه شعر بالفرح لسقوط حكم الجماعة، لكنه لم يفكر أبدا في كون نظام حكمه كان مسؤولا بشكل كبير عن بقاء الجماعة.
عاش حسني مبارك ليشهد دراما أخرى وثورة أخرى، معتبرا أنها ثأر من الإخوان على تآمرهم، ومن دون أن يلتفت إلى أنه هو من فرغ الساحة السياسية، وجعل الإخوان فزاعة وبديلا وحيدا للحزب الوطني، وكأنه عاش ليجد أن الجماعة أعادت له بعض حقوقه، بسبب غبائهم وطمعهم.
ومرت أمام عينيه صور بديع والشاطر وتخيل نظرات الشماتة في عيونهم لكنه عاد ليقول لنفسه عموماً هنشوف. كان يصبر نفسه بأن الجماعة لن تفرح بمؤامراتها.
ومن المفارقات أن كل خصوم السادات، احتفظ بهم مبارك لم يتحالف معهم ولم يقض عليهم، ولم يحاول فهمهم، فقط احتفظ بهم ضمن نظام أمني يقوم على قانون الطوارئ الذي يتيح له اعتقال من أنهوا فترات عقوباتهم. لقد تمت محاكمة قتلة السادات، وإعدام من ثبت تورطهم في الاغتيال، بينما تم الحكم على آخرين بالسجن المؤبد، ومنهم عبود الزمر وطارق الزمر وعاصم عبدالماجد، كما تم سجن زعماء أحداث مديرية الأمن في أسيوط، وظلت المعركة بين النظام والجماعات الدينية التي حملت اسم الإسلام السياسي، مستمرة وبقي المسجونون بعد قضاء العقوبة.
استند مبارك لقانون الطوارئ في مواجهة خصومه من الجماعات الإسلامية والإخوان، وتنحى وقد خرجوا جميعا ليشكلوا الأغلبية والأحزاب، التي نجحت في التهام أغلبية البرلمان، وكأنما احتفظ بهم مبارك ليطلقهم، أو أنهم خرجوا ليحتلوا الصورة التي احتكرها مبارك وحزبه وحدهم، بدا الفراغ كبيرا، احتله خصوم احتفظ بهم مبارك الذي حكم بجزء من تعاليم ميكافيليي ونسي أجزاء أطاحت به قبل أن يشبع من السلطة.
مبارك في حكمه اعتمد على خلطة أمنية معقدة، ولأنه رأى سلفه الرئيس أنور السادات وهو يسقط مقتولا أمام القوات المسلحة، ولم ينفعه نظام وضعه الأمريكان وأجهزتهم ودربوا عليه طواقم الحراسة، توقع كثيرون أن يغير مبارك من طريقة الحكم، لكن الأزمة التي واجهها مبارك أنه لم يكن ذو ميول سياسية ولم يمتلك أبدا مشروعا تجاه السلطة، اندفع بكل ما لديه لبناء نظام يمنع تكرار ما جرى مع السادات، وتمرد على نظام الأمريكان، لكن النظام الأمني تشعب حتى بدا هو المحرك الرئيسي لكل تفاصيل الحياة، كانت سلطة النظام تتبدي في قبضة أمنية تبدو قوية، وصلت ذروتها مع حبيب العادلي.. بينما سلطة الدولة تتآكل لصالح جماعات تجمع بين النشاط الخيري والسياسي والدعوة والدعاية الدينية، وتحتل جماعة الإخوان والجماعات السلفية بتنويعاتها، الفراغات التي لا يصل إليها النظام، يتوقف الأمن عند أبواب الشوارع والحواري والبيوت، بينما سلطة شيخ الجامع والخطيب والداعية تتخلل كل هذه الفراغات.
لقد تسلم مبارك السلطة وهناك أربعة ملفات عالقة ومشتعلة من عهد السادات، هي الفتنة الطائفية، وإن كانت لم تصل لحرب أهلية، وملف الجماعات الدينية والصراع معها الذي كان يأخذ بعدا سياسيا أحيانا، وأخرى شكل الصراع العنيف.
أما الملف الثالث فهو ملف التنمية والاقتصاد والعدالة، لأن مبارك تسلم نظاما اجتماعيا مختلا لم يتدخل فيه، بل إنه غذي الظلم فيه على حساب العدالة، كما أن النظام الاقتصادي كان يقوم في كثير من الأحيان على القرب من النظام السياسي، وجرى تزاوج واضح بين الثروة والسلطة، واقتصرت الفرص الاقتصادية والاستثمارية على المقربين، من توزيع الأراضي إلى غياب نظام عادل للضرائب يعيد توزيع الدخول، والنتيجة، طبقة ثرية جدا من المليارديرات، وطبقة واسعة جدا من الفقراء، وبينهما طبقة وسطى مرتبكة ومتآكلة، وعاجزة عن الصعود مرعوبة من الهبوط. بقى مبارك ثلاثين عاما وتنحى وترك هذه الملفات معلقة تطورت بحكم الزمن وتحولت من حالة حادة إلى حالة مزمنة اكتفى في مواجهتها بالحلول الأمنية.
أما الملف الرابع فهو الملف السياسي، حيث كانت هناك أحزاب ناشئة، لديها هامش من حرية الحركة، لم يتحول إلى متن، وساهمت السياسات التي اتبعها مبارك في مزيد من التهميش، نمت الجماعات الإسلامية، وتقلصت الأحزاب، واختفت السياسة أو ماتت وتنحى مبارك وهناك حالة من العجز السياسي، وغياب البدائل ضمن نظام لا يعرف تداول السلطة، ليس فقط في الحزب الحاكم، وإنما في الأحزاب السياسية المختلفة التي لم تجرب طوال أكثر من ثلاثين عاما فكرة تداول السلطة أو المنافسة السياسية، لقد استدعى الرئيس أنور السادات جماعة الإخوان من المنفى والعزلة، وتحالف معهم ومع تيارات إسلامية ناشئة، ضمن منافسته مع اليسار بتنويعاته، ومات وهو متصادم مع التيار بدرجات مختلفة، بل إنه جرى اغتياله من الجماعات التكفيرية التي نشأت على شواطئ جماعة الإخوان العتيدة.
تسلم مبارك الحكم وظلت علاقته مع الجماعة، بين شد وجذب، وشهدت سنوات حكمه اتساعا لرقعة الجماعات الإسلامية التي مارست السياسة من منظورها، وظلت تراوح مكانها وتجمع بين العمل السري والعلني، وبقيت الأوضاع كما هي، فلم يسمح مبارك بتطور الشارع السياسي، ليخلق حيوية ومنافسة، ولا هو قضى على الجماعات المختلفة التي بقيت واتسعت واتخذت أشكالا أخرى في المجتمع، وتحورت جماعات الإسلام السياسي، بتنويعات مختلفة، إخوان وسلفية وتكفيرية، وانتشرت تلك الجماعات الدعوية في المساجد والحارات والشوارع وتداخلت بأنشطة تجارية ودعوية، بينما ظل مبارك يفضل التعامل الأمني معها من خلال جهاز مباحث أمن الدولة. من دون أن يلحظ حجم التغير داخل الأجهزة الأمنية بما فيها جهاز الشرطة الذي بدا أنه كجزء من المجتمع، تصله وتتغلغل فيه دعوات الجماعات وأفكارها عن الإيمان والخلاص، وتنحى وكل الملفات التي تسلمها من السادات متضخمة وتطورت وتحورت بينما ظل نظام مبارك ثابتا حتى تساقط كأوراق الخريف.
على كل الأحوال، فإن مبارك لا يزال ماثلا، أو هو ماض مستمر، ولاشك أن أسطورته تظهر أكثر بعد رحيله، فقد أبدى تماسكاً في مواجهة عواصف ضخمة، وثورة اقتلعت نظامه، كما أنه خضع لمحاكمة هو وأسرته، وعاش ليرى نفسه خارج السلطة وكلها عواصف كانت كافية لاقتلاع أعصابه، لكنه بقى ليشهد ما بدا أنه نبوءة قبل التنحي، وخطب قائلاً: "على المصريين الاختيار بين الاستقرار أو الفوضى".
مبارك ليس شخصاً، بل هو طريقة تفكير، لا يمكن لأحد أن يكررها كما كانت، وأي قادم جديد عليه أن يدرس تجربة مبارك، ليتعرف على الكيفية التي كانت تدار بها الأمور.
وقد بدأت هذا المشروع للكتابة عن نظام مبارك في محاولة للبحث عن الطريقة التي يحكم بها، وهل هو فرد أم نظام كامل، بحثا عن تفكيك طريقة التفكير التي كانت تدير شؤون البلاد طوال ثلاثين عاما.
وفي هذا السياق، فإن حسني مبارك الرئيس الذي تولى في عام 1981، بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، لم يكن هو نفسه الذي ظل يعاند طوال ست سنوات، ويرفض تعيين نائب له، وهو أحد الألغاز التي حاولنا البحث عنها، في طريقة الحكم، وأيضا استنادا لتفسيرات، تبدو أحيانا خارج نطاق المنطق، وتتعلق بنبوءات عرافين، وسياقات للتشاؤم والتفاؤل.
ونبحث عن علاقة البدايات بالمصائر، وهل تحدد بدايات ونشأة الشخص شكل مصيره بعد عقود طويلة، بالطبع لم يكن مبارك يتصور أن تكون خاتمة حكمه بالتنحي عقب مظاهرات شعبية ضخمة، ولو كان يتوقع أن يكون مصيره الطرد من السلطة، ربما اتخذ سياقا آخر، وتصرف بشكل مختلف، لكن الحقيقة أن أحدا لا يعلم الغيب، فقد كانت عصا النظام تتآكل مثل عصا سليمان وهو ميت مرتكزا عليه، ولولا أن النمل أكلها لظل الجن يعملون وظلوا "في العذاب المهين"، وقبل سنوات في بدايات الألفية كتبت تحقيقا عن "عصا الدولة التي أكلها النمل" بعد تراكم الحوادث، وتكرار الكوارث، وتراكم المرض والفقر.
هل كان يمكن لمبارك أن يواجه مصيراً آخر؟ مبارك حكم مصر ثلاثين عاماً، وقبلها 6 سنوات نائباً للرئيس السادات.. وتجاوز في حكمه مدد الرؤساء الثلاثة نجيب وعبدالناصر والسادات، ولم يجاوزه في العصر الحديث سوى محمد على "من 1805 إلى 1848"، وخلال حكم مبارك ولدت أجيال، ورحلت أجيال، وتفككت أنظمة ودول، وبقى مبارك، وبعد تنحيه وحتى الآن هناك قطاع لا يستهان به يدافع عن مبارك، بينما تمسك آخرون باعتباره سبب كل ما يجري لأنه حصل على كل الفرص الممكنة ليضع مصر ضمن الدول الكبرى.
هل كان من الممكن لمبارك أن يختار مصيراً آخر، وأن يخرج من السلطة معززاً مكرماً، ليحتل مكانة أفضل من مكانته كحاكم سابق يخضع للمحاكمة؟ التاريخ ليس فيه لو، ثم إن مبارك كان من الرؤساء المحظوظين، حصل على فرص لم تتح لغيره من الرؤساء، تسلم مصر وهي ليست في حالة حرب، بينما الحروب دفع ثمنها عبدالناصر والسادات، ثم إن السادات دفع ثمنا إضافيا للسلام الذي أبرمه مع إسرائيل، وهو ثمن كلفه حياته، وأيضا هجوما وانتقادات واتهامات.
تسلم مبارك مصر من دون حروب ولا مفاوضات، وجنى ثمار السلام ورفع العلم على سيناء بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي.
كما نجا مبارك من مصائر لرؤساء وأنظمة أخرى، تفكك الاتحاد السوفيتي، وسقط سور برلين، وخاض صدام حسين حربين، وفي الثالثة تم إسقاط نظامه بالغزو، وظل حسني مبارك من دون أن يرى دواع لتغيير طريقته في الحكم، ورفض الاستسلام للزمن والمسافة، وتمسك بالاستمرار في السلطة بالرغم من الوهن والمرض وقوانين البيولوجيا، بل إنه ترك باب التوريث مفتوحا أحيانا، أو موروبا أحيانا أخرى، وغامضا طوال الوقت، وكانت الفرصة الأكبر لمبارك، الإشارات والتنبيهات والتجاهل.
بعد انتخابه رئيساً في عام 2005، يومها كان مبارك في السادسة والسبعين من عمره، وأمامه 6 سنوات تصل به إلى الواحد والثمانين، وكان الحديث عن التوريث بدأ وتصاعد بما يحيطه من غموض.
يومها كانت المعارضة قد اشتدت وظهرت حركات، ورفعت النخبة أصواتها بالتحذير من انهيارات ظهرت بسبب شيخوخة النظام، وكانت هناك مطالب بأن يعلن مبارك بوضوح أنه لن يترشح مرة أخرى، وأنه سيشرف على انتخابات تأتي برئيس جديد، لكنه أعلن أنه سيواصل البقاء "حتى آخر نفس"، تاركاً باب التوريث مواربا. رفض أي حديث عن عقد اجتماعي ودستور جديد، يعيد تجديد الدم الذي تجمد، والتكلس الذي أصاب كل شيء. لم يسمع، وجاءت انتخابات مجلس الشعب في 2010 لتكشف عن جشع سياسي لفريق جمال مبارك وأحمد عز، ورغبة في الاستحواذ، والاستبعاد، وضاعت الفرصة الأخيرة، وحتى هؤلاء الذين ينفون نية التوريث، لايقدمون تفسيراً لزحف وسيطرة لجنة سياسات جمال، وهو أمر تم بغباء وغياب للرؤية. وخرج مبارك ليؤيد هذا كله ويبرره، لتبدأ مرحلة السقوط.
لم يفكر مبارك في إيقاف الانحدار، وربما إنقاذ نفسه من مصير بدا محتوماً، وظل يثق في قدرته على الاستمرار، بينما كانت الأوضاع تتغير، والخيوط تفلت من يديه خيطا وراء آخر.