تفاصيل الخبر
عرب ما بعد سايكس بيكو
2014-09-01
فيصل جلول
تفيد مؤشرات قوية أن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط في هذه الأيام أشبه بما عرفته عشية اتفاقية سايكس- بيكو مطلع القرن العشرين، وأن مصير معظم دول المنطقة مطروح على بساط البحث بانتظار تبلور نظام دولي جديد أو على الأقل ميزان قوى جديد تستقر تحته دول المنطقة وفق لعبة أمم تحل محل تلك المنتهية لتوها.
والرجاء ينعقد حول خروج العرب هذه المرة بخسائر أقل من تلك التي تكبدوها مطالع القرن الماضي والتي انطوت على ضياع فلسطين وعلى انشغالهم طوال القرن العشرين بالصراع العربي - الصهيوني الذي استنفد طاقاتهم وساهم إلى حد كبير بإعاقة تطورهم رغم امتلاكهم كل أسباب وعناصر وطموحات التطور.
وحتى يتضح مسار المقارنة لا بد من التذكير بالتطورات التي سبقت معاهدة سايكس بيكو الشهيرة. فالمعروف أن العرب في ذلك الزمن كانوا جزءاً من السلطنة العثمانية لا بل كان العربي يطلق مسمى "تركي" بحسب وصف الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" والذي يروي فيه تفاصيل إقامته في عاصمة "الفرنسيس" كما يسميهم في نصه. وحتى اليوم مازال العرب في بعض دول أمريكا اللاتينية يطلق عليهم وصف "توركو" المستمد من تلك الفترة، ومعروف أيضاً أن الدول الغربية قررت تصفية الإمبراطورية العثمانية وبالتالي فصل السلاف والعرب وبقية القوميات عنها وحصرها في الحدود الراهنة للدولة التركية أو ما يشبهها.
وقع الانفصال العربي عن السلطنة العثمانية عبر خدعة تاريخية حيكت في سياق اتفاقية سايكس- بيكو البريطانية الفرنسية التي تنص على استتباع الولايات العربية التابعة للأتراك وتقسيمها بين بريطانيا وفرنسا، في حين كان البريطانيون قد وعدوا اليهود بمنحهم فلسطين التابعة لمناطق نفوذهم بحسب الاتفاقية اللاحقة. وحتى تسير هذه الخطة على أكمل وجه وبلا صعوبات، أرسل البريطانيون أحد ضباط مخابراتهم إلى شبه الجزيرة العربية والذي سيصبح اسمه من بعد "لورانس العرب" كي يشعل ثورة ضد العثمانيين بواسطة قبائل الجزيرة العربية على أن تتوج ثورتهم المظفرة بتأسيس دولة واحدة ومستقلة في المشرق العربي.
ما إن انتهت الحرب وهزم العثمانيون حتى كشف الروس الذين أشعلوا ثورة أكتوبر/ تشرين الأول عام 1917 عن تفاصيل سايكس- بيكو ووعد بلفور، الأمر الذي أثار حفيظة العرب ودفعهم إلى التمرد على البريطانيين والفرنسيين لكن من دون جدوى كبيرة. فقد كان كل شيء قد انتهى تقريباً وسيطر المنتصرون على العالم وشكلوا من بعد المؤسسات الدولية الملائمة لهيمنتهم وهو ما ظل قائماً طوال الحرب الباردة حتى خسارة الولايات المتحدة الأمريكية لحربي العراق وأفغانستان.
لقد خرج العرب من قفطان العثمانيين بعد غياب دام 400 سنة عن المسرح الدولي، ومن الطبيعي أن يكون ظهورهم على المسرح الدولي ضعيفاً بعد هذا الغياب الطويل، علماً أن عواصمهم التاريخية شأن بغداد ودمشق تركها العثمانيون أشبه بقرى نائية في عمق الأرياف المتخلفة بعد قرون من التهميش المتواصل. وبدلاً من الدولة العربية الواحدة الموعودة أجبر العرب على العيش في 22 دولة مازالت قائمة حتى اليوم تحارب بعضها بعضاً وتتحاسد وتنصب الكمائن لبعضها وتتحالف مع الأجنبي ضد بعضها.. الخ.
قبل مئة عام تقريباً صنعت الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى عالم العرب ونظام دولهم من بعد في إطار سايكس- بيكو، واليوم تبدو الدول الغربية عاجزة عن حماية العالم الذي صنعته. فعندما تخسر القوة الأعظم في العالم حربي أفغانستان والعراق التي شنت من أجل تجديد الهيمنة على الشرق الأوسط وجعله كبيراً وموحداً، وعندما تقول إنها عاجزة وحلفاؤها عن إرسال جيوش برية إلى المنطقة، فهذا ينطوي على رسالة واضحة بأنها باتت غير قادرة على حماية هيمنتها وأنها ستنسحب من المنطقة، وبالتالي ستكون مستعدة للتفاهم مع القوى التي تنبثق منها والتي تريد العمل معها في ظل اتفاقات جديدة.
الواضح أن "الربيع العربي" شهد أول المحاولات لإنشاء أنظمة عربية جديدة تحسن شروط التبعية للغرب بيد أنها انتهت إلى فشل ذريع وتعيش بعض دول "الربيع" المذكور مخاضاً لا يستطيع أحد التحكم بنتائجه، في حين تشن منظمة "داعش" هجوماً واسعاً في سوريا والعراق للسيطرة على الدولتين، ويطالب انفصاليون هنا وهناك بدول مستقلة على غرار جنوب السودان الذي انفصل عن الدولة الأم، وكادت دارفو تسير على رسمه، وربما تفعل بعد حين وقد تتبعها مناطق شرق السودان إذا ما ضعفت الدولة المركزية، في حين تهدد "داعش" بإنشاء إمارة في الأردن ولبنان الامر الذي أدى إلى تشكل تحالف دولي وإقليمي لوضع حد لتوسعها وربما للقضاء عليها.
في هذا الوقت يقاتل الفلسطينيون في غزة بوسائل شبه بدائية الجيش "الإسرائيلي" المصنف اقوى قوة في الشرق الأوسط ويبثون الرعب في صفوفه فيتراجع عن عملية برية، والراجح أنهم سيحققون أهدافهم من هذه الحرب التي رسمت حداً فاصلاً ونهائياً لحدود القوة الصهيونية التي باتت تحجم على غرار القوى الغربية عن القتال البري، وبما أن الرجال هم الذين يربحون الحروب وليس التكنولوجيا فمن غير المستبعد أن تتمخض هذه الحرب عن تحقيق الأهداف الفلسطينية وإن تم ذلك فسيكون التراجع الصهيوني الأول من نوعه منذ تأسيس الكيان.
والراهن أن نخب المنطقة العربية تعودت على العيش في ظل نظام إقليمي شبه مستقر، لذا تبدو وكأنها غير مهيأة للنظر إلى عالمنا العربي بعين مختلفة فهي بأغلبيتها لا تقر بهذا التغيير الاستراتيجي الغربي وانعكاساته التي قد تكون مدمرة لنا أن فشلنا في التعاطي معها وفق مصالحنا وطموحاتنا، وأولها مكافحة التفتيت الذي يريده الغرب كي يواصل سيطرته على دول متضررة تناصب العداء لبعضها بعضاً وتتيح للصهاينة هامشاً أكبر للمناورة وللتحالف مع دويلات ضد أخرى والبقاء في فلسطين إلى يوم الدين.