تفاصيل الخبر
تراتيل العكاز الأخير' قصص عن نصف قرن من التراجيديا العراقية
2015-03-29
مروان ياسين الدليمي
محملة بذخيرة الحروب التي عاشها العراقي طيلة عقود طويلة، تتألف المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب العراقي محمد علوان جبر "تراتيل العكاز الأخير" من ثلاث عشرة قصة قصيرة، وقد حملت عنوان إحدى هذه القصص، وسبق للمؤلف أن أصدر مجموعات قصصية مثل "تماثيل تمضي تماثيل تعود"، "تفاحة سقراط"، "شرق بعيد". كما أصدر رواية بعنوان "ذاكرة أرانجا.
رغم أن معظم شخصيات القصص التي ضمتها مجموعة "تراتيل العكاز الأخير" للقاص العراقي محمد علوان جبر، قد تركت الحرب فيها وعليها وشمها واضحا وعميقا، نفسيا وجسديا، إلّا أننا نقف أمام إصرارها على أن تتنفس الحياة بعمق وسرعة رغم مرارة الحزن الذي يترسب في أعماقها، كما هي شخصية صاحب المقهى في القصة المعنونة "العكاز الأخير" إذ يقول "سيدتي أنا أدير مقهى صغيرا تحت ظلال شجرة سدر عملاقة، تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه أطرافنا الصناعية.
نكوّم السيقان والأذرع الصناعية تحت الشجرة، نعرضها تحت الضوء، ونجلس حولها نحدثها وتحدثنا". ثم إن التجانس يبدو واضحا جدا في هذه المجموعة القصصية خاصة وأن الحرب تشكل تاريخا شخصيا لمعظم الشخصيات.
وفي ما يتعلق بتجربة الكتابة القصصية فإن علوان يمتلك خبرة متراكمة تجعله ممسكا بأدواته الفنية بحرفية عالية، وهو يكشف لنا عوالمه بما تختزنه من عوالم داخلية شديدة العتمة داخل مغاور الذات الإنسانية.
في مشغله الفني بدا واضحا أن علوان قد ابتعد في رؤيته الفنية بدرجة ما عن الانشغال المتقصد بخداع القارئ بمقولات فنية تسعى إلى تأطير النص ضمن مقاربات أسلوبية، تجعله متحرّكا في حدود المعالجات المتمظهرة على نطاق انشغالات الهموم التجريبية التي تتحرك فيها القصة الحديثة، سواء في استعراض اللغة أو في المعالجة الشكلية التي عادة ما يمارسها كثير من كتاب القصة القصيرة، الذين يفتقرون في الأغلب في نصوصهم القصصية إلى موضوعة إنسانية تتسم بالعمق والأهمية، لذا يتكئون على إرهاصات تجريبية عادة ما نجدها في كتابات قصصية تحاول أن تستظل بتجارب جاءت بها الحداثة وما بعدها.
تجربة الكتابة لدى محمد علوان تبقى في حدود حرصه الفني على أن تتمظهر رؤيته الموضوعية داخل قصصه ضمن تداولية النص لدى القارئ، ومدى القدرة على تحقيق تواصل عميق بينهما. واللغة لديه، إضافة إلى رشاقتها وجمالها، تبقى مشروطة بحضور إرسالها الفني داخل إطار وظيفتها السردية، دون أن تخرج إلى ما هو جمالي/ شكلاني صرف، لا تأثير له على نمو وتطور البناء.
ليس للحرب من ذكريات تبعث البهجة في الذات الإنسانية، بقدر ما يشكل الأسى قاسما مشتركا بين الجميع، وليس بالضرورة هنا أن تعيش شخصيات علوان حالة الحرب بين الخنادق وتحت القصف، كما في قصة "ضوء أزرق أسفل الوادي.
وتبدو لنا هذه القصة من أجمل وأنضج قصص المجموعة من الناحية الفنية، وهي تتصدى لموضوعة الحرب، بل عمد الكاتب إلى أن تمتد سلطة الحرب بعيدا عن الخنادق إلى أزمنة تأخذ الشخصيات في دوامة الحياة، لتحيط بها وترسم تفاصيل حياتها ومصيرها المأساوي، كما في قصة "ملاذات طالب العجيبة"، بعد أن كانت الحرب قد اقتصَّت منه ومن رمز فحولته، فأحالت حياته الأسرية والنفسية إلى حطام.
الحروب تبقى تطارد الشخصيات بتفاصيل أخرى، في البيوت والشوارع والمقاهي والأزقة التي تنتقل إليها بعد أن تغادر الخنادق، تطاردها في طفولتها كما في قصة "انقلاب"، وفي أحلامها كما في قصة "مطر بلون الرثاء"، وفي لحظات السعادة الشحيحة التي تعيشها كما في قصة "غبار حلم آخر.
ولا فرق هنا في ما لو جاءت الحرب بوجه آخر غير الوجه المتكدس عنها في الذاكرة الجمعية، وذلك عندما تجيء وهي تلبس قناع الرعب السلطوي لتستبيح الحياة الإنسانية، كما في قصتي "الأوبتيما الزرقاء" و"انقلاب.
اختزنت ذاكرة علوان الكثير من التفاصيل الإنسانية التي عاشتها الشخصية العراقية في مسارها التراجيدي خلال أكثر من نصف قرن، كانت الحرب والأنظمة القمعية يقفان خلفها، ليشكلا علاماتها الفارقة التي وسمت ملامحها، وتركت فيها ندوبا تختلط فيها مشاعر الأسى والخوف والوحدة، كما في قصة "صهيل العربة الفارغة.
قد تكون هذه العوالم النفسية الحادة هي الأقرب إلى مشغل القصة القصيرة، التي تصبح فيها الشخصية الإنسانية بؤرة مركزية داخل بنيتها الفنية وهي في حالة من الانشداد والتأزم ضمن قالب زمني مضغوط، يشكل جوهر خيارات تركيبتها البنائية.
إن علوان يدرك جيدا في مجموعته هذه الكيفية التي يبدو فيها أمام القارئ مقنعا ومشوَّقا في سرده الفني، خاصة أن لديه ما يريد أن يوصله من أفكار إلى القارئ، بذلك هو غير منشغل مثل غيره باستعراض مهارته الفنية ككاتب للقصة القصيرة، يملك قدرة الإمساك بانتباه قارئه إلى النهاية حتى يمده بتجربة إنسانية تشير إلى عمق الجروح التي تتركها الحروب في روح الإنسان، وليس من السهل أن يمحوها الزمن، وذلك من خلال تجربة فنية تستحق القراءة والتأمل.
من هنا لا نجده يلجأ إلى الحشو والثرثرة اللغوية وهو يؤثث معمار قصصه، بقدر ما نجده يبدأ سريعا في الدخول إلى مرحلة العرض، وهو ينسج خيوط قصته، لتنمو متدفقة سريعة كما في مفتتح قصته "حفارو الخنادق.
علوان كتب محاولات حثيثة في الانزياح عن التقاليد والتقليدية في البناء بالقصة القصيرة. ويمكن قراءة الحساسية التي اشتغل عليها في بناء قصص المجموعة بما انطوت عليه من تنوع واضح في شخصية السارد، كذلك في تنوع صيغ الضمائر التي جاءت بها، مما يعني ارتهان سياقه السردي -في تعددية صيغه- إلى طبقات المعنى المحمول في علامات السارد.